قوله تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ الخطاب هنا موجه لمن؟ بعضهم يقول: هذا الخطاب للمؤمنين.
وقوله: حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [سورة آل عمران:179] أي حتى يتمحَّص أهل الإيمان، ويتبيّن المؤمن الصادق من المنافق.
وبعضهم يقول: هذا الخطاب للمؤمنين، والمنافقين؛ ممن أظهر الانتساب إلى الإسلام، وأعلن الإيمان، والمعنى يا من تنتسبون إلى الإسلام، وتظهرون اتباع الرسول ﷺ، وقبول ما جاء به ستقع بكم مثل هذه البلايا، والهزائم، والكوارث، والآلام، فتتكشف في أوقات الشدائد حقائق مكنونات النفوس، وتظهر، فيعرف هذا، ويعرف هذا.
وبعضهم يقول: هذا الخطاب موجه للكفار، وعلى هذا يكون المعنى مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ أي على ما أنتم عليه أيها الكفار من الكفر حتى يميز الخبيث من الطيب، وهذا بعيد بل هو أبعد هذه الاحتمالات.
والحاصل أن الخطاب متوجه إلى أمة الإجابة، وأمة الإجابة هذه مختلطة، ففيهم الصادق فيما أظهر من الإجابة، وفيهم الكاذب، وفيهم ضعيف الإيمان، فالله وعدهم بالابتلاء كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] وكما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31] وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [سورة البقرة:214] فهذا كله لا بد منه، فهو أمر واقع يتميز به الصف.
ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميِّز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك".
قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] يقول بعضهم: أي: في اختيار النبوة من الذي يصلح لها ممن لا يصلح، وهذا بعيد، وإنما المعنى الصحيح هو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - في قوله: "أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميِّز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك" أي أنكم لا تعرفون ما تكنه الضمائر، وما تنطوي عليه القلوب من النفاق، وإنما الذي يعلم ما في القلوب هو الله الذي خلقها، والناس ليس لهم إلا الظاهر، لكن إذا قدر الله هذا الابتلاء فإنه بذلك يظهر ما تنطوي عليه القلوب ليكون ذلك معايناً مشاهداً، فتعرفون أحوال هؤلاء، فما كان الله ليطلعكم على الغيب، ولكن من حكمته أن قدر هذا الابتلاء حتى يظهر الصادق من الكاذب، ويتميز الصف، فتعرفون ذلك، وإلا لم يُعرف، ولم يُميز هؤلاء من هؤلاء، وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير هو الذي عليه المحققون من المفسرين كابن جرير وغيره.
يعني أن الله إنما يطلع أنبياءه ﷺ على ما شاء أن يطلعهم عليه من الغيوب، وأما بقية الناس فإنهم لا سبيل لهم إلى الاطلاع على ذلك؛ لأن الوحي لا ينزل عليهم، وهذا الجزء من الآية: وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء [سورة آل عمران:179] هو الذي حدا ببعض المفسرين أن يقول: إن المراد بقوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179] أي من يستحق أن يُجتبى للنبوة، والرسالة كما قال الله : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [سورة القصص:68] وقال في موضع آخر: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني النبوة، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الزخرف:32].
فالحاصل أن هذه هي القرينة التي جعلتهم يقولون هذا المعنى، والأقرب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكرت من أن الناس لا سبيل لهم إلى الغيوب التي منها ما تكنه الصدور، وإنما يكون ذلك لمن اجتباهم الله فهو يطلعهم بوحيه، فيقدر هذه المحن فتعرفون ذلك ظاهراً، وأما أنتم فليس لكم إلى ذلك سبيل.