الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا۟ بِهِۦ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ [سورة آل عمران:180] أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه.
ثم أخبر بمآل أمرِ مالِه يوم القيامة فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180].
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له شجاعاً أقرعَ له زبيبتان يطوَّقه يوم القيامة، يأخذ بِلِهْزِمتيه (يعني بشدقيه) يقول: أنا مالك، أنا كنزك ثم تلا هذه الآية: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ [سورة آل عمران:180] تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه[1]".

هذا التفسير لا ينبغي العدول عنه؛ لأن النبي ﷺ ذكر فيه الآية، فليس مما يدخله الاجتهاد، بمعنى أن المفسر قد يعمد إلى حديث لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية، فقد يخطئ المفسر في الربط بين هذا وهذا، ولهذا كان معنى قوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180] أي: يكون طوقاً على أعناقهم كما في الحديث الآخر: من ظلم من الأرض شيئاً طُوِّقه من سبع أرضين[2]، وهذا خلافاً لمن قال: إن قوله: سَيُطَوَّقُونَ أي: أن الله يجعل لهم طاقة وقدرة على حمله يوم القيامة يعني يُحمَّلونه يوم القيامة.
وبعضهم يقول: هذا يدل على الملازمة كملازمة الطوق للعنق، أي أن ذلك يكون ملازماً لهم يوم القيامة، وهذه المعاني فيها بعد، والأقرب - والله تعالى أعلم -، بل المتعين في تفسير الآية هو ما دل عليه الحديث أنه يكون طوقاً يطوقه في عنقهم يوم القيامة.
"وروى الإمام أحمد عن عبد الله عن النبي ﷺ قال: ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاعاً أقرع يتبعه يفر منه، وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:180] وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ثم قال الترمذي: حسن صحيح[3].
وقوله تعالى: وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة آل عمران:180] أي وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله ، فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة آل عمران:180] أي: بنياتكم، وضمائركم".

قوله: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي أنه خبير بنياتكم، وضمائركم، وسائر أعمالكم، ويعلم من يبخل، ومن يجود، فالله يعلم خفيات الأمور، ودقائق الأشياء، لا يخفى عليه منها خافية.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة - باب إثم مانع الزكاة (1338) (ج 2 / ص 508).
  2. أخرجه البخاري في كتاب المظالم - باب إثم من ظلم شيئا من الأرض (2320) (ج 2 / ص 866) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612) (ج 3 / ص 1231).
  3. أخرجه النسائي في كتاب الزكاة - باب التغليظ في حبس الزكاة (2441) (ج 5 / ص 11) وابن ماجه في كتاب الزكاة - باب ما جاء في منع الزكاة (1786) (ج 1 / ص 569) وأحمد (3577) (ج 1 / ص 377) وأصله في البخاري وقد سبق تخريجه في الحاشية رقم (2).

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [آل عمران:180] يمنعون الزكاة، وغيرها."

يقول: يمنعون الزكاة، وغيرها، يعني: من الصدقات، والحقوق الواجبة، والمُستحبة، وأدخل فيه بعضهم ما هو أعم من ذلك، كالذي يبخل بعلمه، أو يبخل بجاهه من ذوي الجاه، وأهل الكتاب بخلوا بما عندهم من علمٍ، وكتموا شهادةً فيما يتصل بصفة النبي ﷺ

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هذه قرينة سَيُطَوَّقُونَ على أن المراد بالبُخل هنا البخل بالنفقة، والمال من الزكاة سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا ولهذا فإن حمل ذلك على الزكاة، وما يجب في المال تدل عليه هذه القرينة سَيُطَوَّقُونَ لكن لو إنه بخل بالصدقة فإنه لا يدخل في ذلك.

وهل يُقال: إن البخل بالعلم يحصل به هذا الجزاء سَيُطَوَّقُونَ وكذلك البخل في الجاه؟ النبي ﷺ يقول: من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من نار[1] ما قال يُطوق بذلك، لكنه ذكر التطويق فيمن غصب، أو اقتطع شبرًا من الأرض من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه من سبع أرضين[2].

فمن نظر إلى العموم هنا: بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيدخل فيه المال، والعلم، والجاه، ونحو ذلك، الرأي، والعقل بدل المشورة، والنصيحة، ولكن قوله: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فهذه قرينة على أن المراد المال، والنفقات الواجبة من الزكاة، ونحوها - والله أعلم -. 

"هُوَ خَيْرًا [آل عمران:180] هُوَ فصلٌ، وخَيْرًا مفعولٌ ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل خيرا لهم."

قوله: هُوَ خَيْرًا هُوَ فصلٌ، يعني: هو ضمير فصلٍ، يعني لو قال هكذا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِخَيْرًا لَهُم نهيٌ عن ذلك بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ فـ هُوَ ضمير فصل يدخل بين طرفي الكلام، المبتدأ، والخبر مثلًا؛ لتقويته، تقول: هذا خيرٌ لك، تقول: هذا هو خيرٌ لك، ما الفرق؟ هذا لتقوية الكلام، تقول: هذا كريم، هذا هو الكريم، هذا لتقوية النسبة بين طرفي الكلام، فهذا معنى يقول: هُوَ خَيْرًا هُوَ فصلٌ، يعني ضمير فصل.

وخَيْرًا مفعولٌ ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل، هذا المفعول الأول خَيْرًا هذا المفعول الثاني.

"سَيُطَوَّقُونَ [آل عمران:180] أي: يلزمون إثم ما بخلوا به، وقيل: يجعل ما بخلوا - وفي النسخة الخطية: ما بخلوا به - حيةً يُطوّقها في عنقه يوم القيامة."

لاحظ المعنى الأول: يلزمون إثم ما بخلوا به، يعني: أنه ليس ثمة تطويق حقيقةً، هذا معنى التفسير الأول، القول الثاني: يُجعل ما بخلوا به حية يُطوّقها في عنقه يوم القيامة، حية هذا يحتاج إلى دليل، ما الدليل؟ جاء في الصحيح في البخاري: من أتاه الله مالًا فلم يؤدِ زكاته مُثل له ماله شُجاعًا أقرع له زبيبتان يُطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلازمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك، أنا كنزك ثم تلى هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ[3] قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34 - 35] فهذا الحديث صريح، وواضح بأن هذا المال الذي لم تُؤدَ زكاته أنه يُمثّل له بهذه الصفة، يكون شجاعًا أقرع، الشجاع معروف: الحية، الثعبان، بعضهم يقول: العظيم، أو الذكر من الثعابين، أقرع لكثرة السم يقولون: يتساقط عنه شعر الرأس.

وفي هذا الحديث قيّده بقوله: لم يؤدِ زكاته وفي الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ فلا يكون هذا الوعيد على ترك المستحب، وهذا التطويق يُفسّر بهذا الحديث؛ لأن النبي ﷺ ذكر الآية فيه، والحديث النبوي - التفسير النبوي - إذا ذُكر معه الآية، وصحّ سنده فإنه لا يُتجاوز إلى غيره، يعني: هذا لا يدخله اجتهاد المُفسر، كون المفسر ربط بين حديث لم يتطرق فيه النبي ﷺ إلى الآية، لكن فهم المفسر أن الحديث يتعلق بالآية، هذا قد يُصيب المفسر في الربط، وقد يُخطئ، لكن إذا ذكر النبي ﷺ الآية كما في هذا الحديث فهذا تفسيرٌ لها، فيكون هذا هو المعنى - والله أعلم -. 

وبعضهم يقول: يكون طوقًا سَيُطَوَّقُونَ يعني: يكون هذا المال طوقًا، هذا الذي اختاره ابن جرير[4] وأبعد من قال بأن المراد يعني: من الطاقة، أي سيُحمّلون عقابه، وبعضهم يقول: يُلزمون أعمالهم لزوم الطوق للعُنق، هذه أقوال بعيدة، والحديث نص في بيان المُراد - والله أعلم -.

لكن الآية تدل على هذا المعنى الذي دل عليه الحديث، وأصل الطوق ما يُجعل في العُنق، وكلما استدار بشيء فهو طوق. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، برقم (3658) والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في كتمان العلم، برقم (2649) وقال: "حديث حسن" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6284).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المظالم، والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453) وبرقم (3195) كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم، وغصب الأرض، وغيرها، برقم (1612).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (1403).
  4. تفسير الطبري (6/276).