الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ۝ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [سورة آل عمران:181-184].
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزل قوله تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك، يسأل عباده القرض، فأنزل الله: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء الآية [سورة آل عمران:181]" رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.
وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله: وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:181] أي: هذا قولهم في الله، وهذه معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة آل عمران:181-182] أي: يقال لهم ذلك تقريعاً، وتوبيخاً، وتحقيراً، وتصغيراً".

مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ [آل عمران:181] الآية، لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة:245] قال بعض اليهود: وهو فنحاص، أو حُيَي بن أخطب، أو غيرهما: إنما يستقرض الفقير من الغني، فالله فقير، ونحن أغنياء، فنزلت هذه الآية، وكان ذلك القول اعتراضًا على القرآن أوجبه قلة فهمهم، أو تحريفهم للمعاني، فإن كانوا قالوه باعتقادٍ فهو كفر، وإن كانوا قالوه بغير اعتقاد فهو استخفاف، وعناد."

هو كُفر سواء قالوه استخفافًا، أو قالوه كما يقول هنا اعتراضًا على القرآن باعتقادٍ، ففي كل الحالات الذي يقول: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ لا شك أن هذا من أعظم الكُفر في كل الحالات، أيًا كان الباعث على هذا القول هو الاعتقاد، يعتقد أن الله فقير فعلًا، أو أنه يقول ذلك على سبيل الاستخفاف، والاستهزاء، كيف يطلب منّا القرض مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قبّحهم الله.

هذا الذي ذكره في سبب النزول جاء من حديث ابن عباس - ا - قال: "قال أبو بكر لفنحاص، وكان من علماء اليهود، وأحبارهم: اتقِ الله، وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن رسول الله ﷺ من عند الله، جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة، والإنجيل، فقال فنحاص: يا أبا بكر، والله ما بنا إلى الله  من فقر، وإنه إلينا ليفتقر، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيًا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا، ويُعطيناه" يعني بمضاعفته، يعني: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً يقول: "ولو كان عنّا غنيًا ما أعطانا الربا" يعني: بمضاعفة الثواب على الصدقة، "فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص، فأخبر فنحاص رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فأخبره، فجحد ذلك فنحاص، فقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله - عز، وجل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ"[1] هذا أخرجه ابن جرير، والطحاوي في مُشكل الآثار، وابن أبي حاتم في التفسير، وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر، وجوّد إسناده الشيخ أحمد شاكر، وبعضهم يُضعّف هذه الرواية.

ووردت روايات نحوها لا تخلو من ضعف، هذا الذي يُشير إليه ابن جُزي - رحمه الله - هنا في سبب النزول، أنها نزلت بسبب فنحاص.

"سَنَكْتُبُ ما قالُوا [آل عمران:181] أي تكتبه الملائكة في الصحف وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل عمران:181] أي: قتل آبائهم للأنبياء، وأُسند إليهم؛ لأنهم راضون به، ومتبعون لمن فعله من آبائهم."

ذكرنا في بعض المناسبات قاعدة، وهي أن فعل الآباء، أو ما صدر عن الآباء، أو القبائح، أو المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وهذا كثير في القرآن وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] الذين قالوا هذا هم أجدادهم، وليسوا الذين عاصروا النبي ﷺ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ [البقرة:91] الذين قتلوهم هم أسلافهم، فالمذمّة التي تلحق الآباء تكون لاحقةً للأبناء إذا كانوا على طريقتهم، كما أن المنّة على الآباء تكون واصلةً للأبناء، ولهذا يمتنّ الله عليهم يقول: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [البقرة:50] والذين أنجاهم الله وفرق بهم البحر هم أسلافهم، وليسوا المعاصرين للنبي ﷺ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57] وذلك كان لأسلافهم، فهكذا المنن على الآباء تلحق الأبناء، وهذا ليس في بني إسرائيل فقط، تجده في القرآن في الامتنان على بني آدم في خلقهم، وتصويرهم، وما إلى ذلك، وإسجاد الملائكة، ونحو هذا.

  1. أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/87) برقم (1830) وابن جرير الطبري في تفسيره (6/278).