الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۝ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة آل عمران:48 - 51].
"يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى : أن الله يعلمه الكتاب، والحكمة، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة".

فقوله - رحمه الله -: "الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة"، قال: المراد به الكتابة، لماذا لم يحمل الكتاب على الكتاب الموحى به إليه، وهو الإنجيل مثلاً؟ أو التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى ﷺ، وجاء عيسى - عليه الصلاة، والسلام - مقرراً له؟ ما الذي حمل الحافظ ابن كثير على هذا؟ 
الذي حمله على هذا هو أن العطف يقتضي المغايرة، فالله سبحانه يقول: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48]، والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالكتاب هنا هو الكتابة، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله - قال به ابن جرير، وجماعة، والقول به هنا ليس فيه تكلف، بل هو ظاهر غاية الظهور، ويشبهه - وإن كان دونه في الوضوح - قوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فالكتاب هنا يحتمل أن يكون القرآن، لكن إذا قلنا: إن الكتاب هنا هو القرآن سيكون قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة الجمعة:2] من قبيل التكرار، ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إن الكتاب أيضاً في الآية الأخرى هو الكتابة، واستدلوا بهذا، واستدلوا بقرينة أخرى، وهي أنه ناسب هنا ذكر الكتابة لذكر الأميين، فالنبي بعث في الأميين، والأمي هو الذي لا يعرف الكتابة، فامتن الله ببعثته عليهم فصارت الكتابة فاشية فيهم، لكن هذا القول هنا في الوضوح ليس مثل القول في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48] فهذه الآية أوضح في الحمل على الكتابة؛ لأن قوله هناك: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ مع يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، يمكن أن يكون بمعنى أنه يعلمهم الكتاب، ويقرأ القرآن، لكن هنا صرح بالتوراة، والإنجيل.
قوله: "والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة"، نعم تقدم الكلام على الحكمة، وأن أصلها وضْع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، وتأتي بمعنى الفقه في الدين، وتارة تأتي بمعنى النبوة، إلى آخره، وذكرنا وجه الجمع بين هذه الأقوال، وأنها ترجع إلى أصل واحد، لكن الظاهر أن المراد بالكتاب هنا الكتابة، والحكمة يقول ابن جرير - رحمه الله -: إنها السنّة هنا في هذه الآية، وليس المقصود سنة النبي ﷺ، وإنما المقصود ما أوحاه الله إليه من غير الكتاب مما أوحى به إليه من ألوان الوحي، والهدايات من غير الإنجيل - والله أعلم -.
"وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ فالتوراة هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم - عليهما الصلاة، والسلام - وقد كان عيسى يحفظ هذا، وهذا".

مرات الإستماع: 0

"وَيُعَلِّمُهُ عطفٌ على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ [- وفي النسخة الخطية: أو على وَيُكَلِّمُ -].

يقول: "يُعَلِّمُهُ عطفٌ على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ" يعني أن الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ أو وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ يكون عطف على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَيُعَلِّمُهُ وكأن الثاني أقرب - والله أعلم - لكن ما قال بأنه يُبَشِّرُكِ باعتبار أنه أول المذكورات إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ فالأولى هي البشارة، فما بعدها معطوفٌ عليها بهذا الاعتبار. 

"الْكِتَابَ هنا جنس، وقيل: الخطُ باليد، والحكمة هنا: العلوم الدينية، أو الإصابةُ في القول، والفعل".

يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ الكتاب جنس: يعني جنس الكتاب، يعني الكتاب المنزل على الأنبياء، والرسل - عليهم الصلاة، والسلام - باعتبار أنه ذكر بعد ذلك التوراة، يعلمه التوراة، والإنجيل أيضًا، إذًا ما هذا الكتاب؟ هل هذا تكرار؟ قلنا: بأن الأصل عدم التكرار، وأن التأسيس مُقدم على التوكيد، فالكتاب هنا غير التوراة، والإنجيل، الكتاب هنا جنس يشمل التوراة، والإنجيل، وغير التوراة، والإنجيل.

ويحتمل أن يكون بمعنى الكتابة يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ لهذا قال هنا: "وقيل: الخط باليد" لماذا قيل هنا: بأنه الخط باليد؟ لأنه قال بعدها: وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ فهذا هو الكتاب، الذي الوحي المنزَّل؛ فلأجل ألا يكون تكرارًا، فيكون وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ يعني الكتابة، والكتاب الوحي المنزل التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] بعضهم قال هنا في آية الجمعة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ هذا القرآن وَيُزَكِّيهِمْ: التربية وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ بعضهم قال: الكتابة، لماذا الكتابة؟ قالوا:

أولًا: من أجل ألا يكون هناك تكرار مع يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ.

الأمر الثاني: قالوا: بأن القرينة هنا ذكر الأميين، فهنا على سبيل الامتنان، والأمي هو الذي لا يكتب، فكان انتشار الكتابة بعد بعث النبي ﷺ كما هو معلوم، وأسارى بدر الذين كان من كان منهم يعرف الكتابة، فإنه يعلم عشرة من صبيان المسلمين، فبعضهم قال: المقصود هنا بآية الجمعة: الكتابة؛ لهذين السببين، وهذا احتمال على كل حال، ويحتمل غير ذلك، وقد يكون أحسن منه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا هذا التلاوة عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ هذه التربية وَيُعَلِّمُهُمُ هذا الفقه في الدين، فلا تكرار، وهو أحسن من قول من قال: بأنه الكتابة - والله أعلم -.

فهنا وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ يعني جنس الكتاب، وليس المقصود الكتابة، مع إنه يحتمل وَالْحِكْمَةَ يقول هنا: "الحكمة يعني الإصابة في القولِ، والفعل" هذا معنًى للحكمة، وتُقال الحكمة أيضًا: للفقه في الدين، وقد تُقال في بعض المواضع في غير ذلك، لكن إذا ذُكرت مع الكتاب، أو مع التوراة، والإنجيل الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فقد تكون الحكمة هي السنة، وقد تكون بمعنى الفقه في الدين، يعني بحسب السياق.