"يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى : أن الله يعلمه الكتاب، والحكمة، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة".
فقوله - رحمه الله -: "الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة"، قال: المراد به الكتابة، لماذا لم يحمل الكتاب على الكتاب الموحى به إليه، وهو الإنجيل مثلاً؟ أو التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى ﷺ، وجاء عيسى - عليه الصلاة، والسلام - مقرراً له؟ ما الذي حمل الحافظ ابن كثير على هذا؟
الذي حمله على هذا هو أن العطف يقتضي المغايرة، فالله سبحانه يقول: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48]، والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالكتاب هنا هو الكتابة، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله - قال به ابن جرير، وجماعة، والقول به هنا ليس فيه تكلف، بل هو ظاهر غاية الظهور، ويشبهه - وإن كان دونه في الوضوح - قوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فالكتاب هنا يحتمل أن يكون القرآن، لكن إذا قلنا: إن الكتاب هنا هو القرآن سيكون قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة الجمعة:2] من قبيل التكرار، ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إن الكتاب أيضاً في الآية الأخرى هو الكتابة، واستدلوا بهذا، واستدلوا بقرينة أخرى، وهي أنه ناسب هنا ذكر الكتابة لذكر الأميين، فالنبي بعث في الأميين، والأمي هو الذي لا يعرف الكتابة، فامتن الله ببعثته عليهم فصارت الكتابة فاشية فيهم، لكن هذا القول هنا في الوضوح ليس مثل القول في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:48] فهذه الآية أوضح في الحمل على الكتابة؛ لأن قوله هناك: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ مع يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، يمكن أن يكون بمعنى أنه يعلمهم الكتاب، ويقرأ القرآن، لكن هنا صرح بالتوراة، والإنجيل.
قوله: "والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة"، نعم تقدم الكلام على الحكمة، وأن أصلها وضْع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، وتأتي بمعنى الفقه في الدين، وتارة تأتي بمعنى النبوة، إلى آخره، وذكرنا وجه الجمع بين هذه الأقوال، وأنها ترجع إلى أصل واحد، لكن الظاهر أن المراد بالكتاب هنا الكتابة، والحكمة يقول ابن جرير - رحمه الله -: إنها السنّة هنا في هذه الآية، وليس المقصود سنة النبي ﷺ، وإنما المقصود ما أوحاه الله إليه من غير الكتاب مما أوحى به إليه من ألوان الوحي، والهدايات من غير الإنجيل - والله أعلم -.