السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۝ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة آل عمران:52 - 54].
يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى أي: استشعر منهم التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال". 

هذا التفسير لـ"حسَّ" قريب، لا تكلف فيه، وأصل ذلك هو إدراك الشيء بالحاسة، وصار يعبر به عن العلم، والإدراك، والمعرفة.
والمقصود أن عيسى ﷺ علم منهم ذلك، وأدركه، وعرفه، وعلى كل حال صار ذلك معلوماً له مدركاً كالشيء المشاهد، والله يقول: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ [سورة مريم:98]، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [سورة آل عمران:52] فسره هنا بقوله: إنه بمعنى الإعراض، والجحود، والمكابرة، ومن أهل العلم من يقول بأن الكفر هنا يعني إرادة قتله، فأحس منهم الكفر يعني أنهم يعزمون على قتله، وهذا فعلاً من الكفر، فهم كذبوه، وجحدوا ما جاء به، وتمالئوا على قتله، فهذه الأقوال لا منافاة بينها.
" قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله؟، والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله، كما كان النبي ﷺ يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر: من رجل يُؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي[1]".

ما الذي جعل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: والظاهر أنه أراد: من أنصاري في الدعوة إلى الله"؟
الذي حمله على ذلك هو التركيب، والتعدية بـ"إلى" حيث قال: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ [سورة آل عمران:52].
ابن جرير الطبري - رحمه الله - يجعل "إلى" هنا بمعنى "مع" وقد ذكرنا مراراً أن حروف الجر تتناوب، فيستعمل بعضها في معنى بعض، فإذا فسرت "إلى" بمعنى "مع" فلا إشكال، حيث يكون المعنى من أنصاري مع الله، كقوله - تبارك، وتعالى -: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [سورة النساء:2] يعني مع أموالكم.
وبعض أهل العلم يحاول أن يقدر في الكلام تقديراً يصلح أن يُعدَّى بـ"إلى" فالحافظ ابن كثير هنا قال: "والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة؟"، وبعضهم يقول: يوجد بعد أنصاري مقدر محذوف، وقع حالاً، أى من أنصاري متوجهاً إلى الله، أو ملتجئاًً إلى الله، أو من أنصاري ذاهباً إلى الله؟ وبعضهم يقول قولاً قريباً من قول ابن كثير نحو من أنصاري في السبيل إلى الله، أو في الطريق إلى الله؟ فهذه مثل في الدعوة إلى الله، ويقال غير هذا أيضاً، لكن السبب في هذه الأقوال هو التعدية بـ"إلى" فإما أن نجعل "إلى" بمعنى "مع" وإما أن نقول: هناك تقدير، وهذا المقدر يصلح أن يُعدَّى بـ"إلى".
"حتى، وجد الأنصار فآووه، ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه، ومنعوه من الأسود، والأحمر - ، وأرضاهم -، وهكذا عيسى ابن مريم انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به، وآزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۝ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:52 - 53] الحواريون، قيل: كانوا قصَّارين".

الفقهاء يقولون في عقد البيع، والشراء: لو باعه ثوباً، واشترط قصارته، يعني خياطته، أو غسله - فالله أعلم -.
وأصل الحواري هو الخالص من كل شيء، ولذلك مما قيل في الحَوَر أنه شدة بياض العين مع السواد، وهذا أجمل، ولا شك من الذي بياض عينه أصفر، فهو الخالص من كل شيء، فالثياب ما كان شديد البياض، وحواري الرجل بمعنى خلاصة، وصفوة أصحابه، فالحواريون هم خلاصة أصحاب المسيح - عليه الصلاة، والسلام -، وصفوتهم، وقيل لهم ذلك لصفاء نفوسهم، أو لصفاء نياتهم، أو لخلوص صحبتهم، ومحبتهم، ونصحهم، وصدقهم، وما أشبه ذلك، فالصفوة، والخلاصة يقال لها هذا.
وبعضهم نظر إلى شيء حسي، مشاهد هوالبياض فقال: قيل لهم ذلك لشدة بياض ثيابهم، وبعضهم يقول: القصارين، وبعضهم يقول غير هذا مما لا دليل عليه، فالحواريون على كل هم خلاصة أصحاب عيسى ، وأما عددهم فلا طائل تحته، فبعضهم يقول: اثنا عشر، وبعض يقول: أكثر من هذا بكثير، وبعضهم يحاول أن يجمع بين هذه الإسرائيليات، ويقول: إنهم كانوا كذا، والخلاصة أن كبارهم، أو عرفاءهم كانوا اثنا عشر رجلاً.
"الحواريون: قيل كانوا قصارين، والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير - ﷺ:  إن لكل نبي حوارياً، وحواريَّ الزبير[2]".
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير استشهد عليه بهذا الحديث، وهو معنىً صحيح أي الناصر، لكن هذا لا يعارض ما ذكر من أنهم صفوة، وخلاصة أصحاب الأنبياء مثلاً، أو خاصة الأنبياء، فخلاصة أصحاب الأنبياء هم ناصروهم. 
  1. أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في القرآن (4736) (ج 4 / ص 376)، والترمذي في كتاب فضائل القرآن عن ﷺ (2925) (ج 5 / ص 184)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1947).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب فضل الطليعة (2691) (ج 3 / ص 1046)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل طلحة، والزبير - ا - (2415) (ج 4 / ص 1879).

مرات الإستماع: 0

"فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى [آل عمران:52] أي: علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس." 

فقوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى قال: أي: علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس، أحس، إحساس في أصله يقال لوجود الشيء في الحاسة، والحواس معروفة، كاللمس، والشيء الذي يُسمع، أو يُبصر، أو يُشم، أو يُذاق، الحواس الخمس، ووجود الشيء بالحاسة يقال له: إحساس، ويقال للعلم بالشيء إذا كان بهذه المثابة، وهذا الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -.

علم علمًا ظاهرًا كعلم ما يدرك بالحواس، كما قال الله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم:98] عبر بالإحساس، والمقصود به هنا: الإدراك القوي، الجاري مجرى المشاهدة، وعلم منهم ذلك، لكن هذا العلم صار بمنزلة كالذي يدرك بالحاسة.

"مَنْ أَنْصَارِي [آل عمران:52] طلب للنصرة، والأنصار جمع ناصر."

يعني في هذا الاستفهام مَنْ أَنْصَارِي: هو يطلب النصرة، من ينصرني.

"إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52] تقديره: من يضيفوا أنفسهم في نصرة إلى الله، فلذلك قيل: "إلى" "إلى" هنا بمعنى "مع" أو يتعلق بمحذوف تقديره: ذاهبًا، أو ملتجأ، وفي النسخة الخطية: ذاهبًا إلى الله، أو ملتجأ إلى الله."

يكفي أن يقال: تقديره ذاهبًا، أو ملتجأ إلى الله، يعني هنا يؤدي المعنى المراد، كما في النسخة عندكم، هنا في قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ فعُدي بـــ"إلى" فعلى مذهب الكوفيين من النحاة - الذين يقولون بتناوب حروف الجر: أن التضمين واقع في حروف الجر، فيكون ذلك بمعنى "مع" يعني "إلى" بمعنى "مع" باعتبار أن الفعل "نصر": يعد بـــ"مع" وكذلك ما يقوم مقامه كالمصدر، ونحو ذلك، فهنا عدي بـــ "إلى" فمذهب الكوفيين مذهب سهل، وقريب، فيقولون: بأن الحرف الذي هو هنا "إلى" ضمن معنى حرفًا آخر من حروف الجر، وهو "مع" واستقام المعنى مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي: من أنصاري مع الله، فالله ناصره، يقول: من ينصرني من الأتباع مع ربي.

وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - كقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2] إِلَى أَمْوَالِكُمْ يعني: مع أموالكم، لكن على مذهب البصريين الذين يقولون بتضمين الفعل، وما يقوم مقامه: معنى فعل آخر يصح أن يعد بهذا الحرف، فهذا كما قلنا: بأن هذا المذهب أدق، وأبلغ، وهو الذي يسميه الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: مذهب فقهاء النحاة[1] لأن فيه تكثير للمعاني.

يعني مثلًا في قوله - تبارك، وتعالى -: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ما قال: مع أموالكم، فدل على تضمين فعل الأكل: معنى فعل آخر يصح أن يعد بــ"إلى" مثل: ضامين، هذا يقوم مقام الفعل، وليس بفعل وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ فيكون مضمن لمعنى فعل آخر مثل ضم، تقول: ضم مَالَه إلى مَالِه، ضم أموالهم إلى أمواله، ففيه معنى الضم، وصار يعطي معنى الأكل، والضم، أو الحيازة، ونحو هذا.

وهنا في هذه الآية: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ هنا يقول: تقديره من يضيف أنفسهم في نصرتي إلى الله، يقول: فلذلك قيل: "إلى" هنا بمعنى "مع" أو يتعلق بمحذوف تقديره: ذاهبًا؛ لأن ذاهب يعد بــ"إلى" ذهبت إلى المسجد، ذاهبًا إلى الله، أو يقدر بــ"ملتجأ" التجأت إلى الله، لاحظ: كل هذا من أجل أن الفعل نصر يعدى بــ"مع" فلا بد من فعل آخر مضمن في داخله، يعدى بــ"إلى" غير نصر، إلى من أنصاري إلى الله.

بعض أهل العلم يقولون: بأن الجار، والمجرور في موضع الحال إِلَى اللَّهِ وتتعلق إلى بمحذوف، والتقدير من أنصاري مضافين إلى الله، بدل أن نقول إن الحرف "إلى" مضمن معنى "مع" يصير من أنصار أنصاري، صار في هذا معنى مضافين، من أنصاري مضافين، فصار عندنا معنيان، وهذا أكمل، النصرة، والإضافة، مضافين إلى الله، أو مضافين إلى أنصار الله، أو من أنصاري متوجهًا إلى الله، يعني حال كوني متوجهًا إلى الله، أو حال كوني ملتجأ إلى الله، أو حال كوني ذاهبًا إلى الله، أو من أنصاري حال كوني داعيًا إلى الله، إذا قلنا: إن الجار، والمجرور في موضع الحال، حال كوني داعيًا إلى الله، كل هذه التقديرات.

وبعضهم يقول: بأن "إلى" بمعنى اللام مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي: من أنصاري لله، وهذا يجري على مذهب الكوفيين الذين يقولون: بأن حروف الجر تتناوب، فيضمن الحرف منها معنى حرف آخر، ويقوم مقامه، يقولون: كقوله: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس:35] يعني يهدي إلى الحق.

وذكر البقاعي في نظم الدرر: أنه لما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره، عبر عن ذلك بصلة، والحرف "إلى" دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة، فقال: إلى، أي: سائرين إلى الله، من أنصاري سائرين إلى الله، أو واصلين إلى الله، واصلين معي بنصرهم إلى الله"[2] هكذا قال.

وبعضهم يقول: من أنصاري حال التجائي إلى الله، أو من أنصاري إلى أن أبين أمر الله، أو من أنصاري في السبيل - في الطريق - إلى الله، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله، يضم.

مجاهد - رحمه الله - من السلف يقول: "من يتبعني من أنصاري إلى الله"[3] فضمن معنى الإتباع، يتبعني إلى، بمعنى أنهم يبحثون عن فعل يصح أن يعدى بــ"إلى" كما مثلنا في بعض المناسبات: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6] قلنا: بأن العين لا يُشرب بها، وإنما يُشرب منها، لكن الكأس يشرب بها، والعين يشرب منها، أي ليست إناء يأخذه الإنسان، ويشرب به، وإنما يشرب منه، فالكوفيون يقولون: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الباء حرف الجر: مضمن معنى "من" عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا أي: منها.

ومذهب البصريين يقولون: إن الفعل يشرب مضمن معنى فعل آخر، يصح أن يعد بالباء، عينًا يشرب يعني ضمن معنى يرتوي، فيرتوي يصح أن يعد بالباء، أو يلتذ بها، قالوا: فالمعنى أكمل، صار عندنا معنى الشرب، فقد يشرب، ولا يلتذ، يشرب على القذى، وقد يشرب، ولا يرتوي، فلاحظ التعدية بالحرف هنا "الباء": دلت على معنى الارتواء مع الشرب، والالتذاذ، وهكذا للتعدية تؤثر مثل هذه المعاني، ويكون فيها على مذهب البصريين من تكثير المعنى ما لا يكون على قول الكوفيين، لكن على قول الكوفيين أسهل، ولذلك النحو الكوفي سهل، ومن استصعب النحو فدرسه على طريقة الكوفيين: لم يجد في ذلك صعوبة، وعناء، وهذا أمر معلوم، يمكن يدرس النحو، ويقول: أنا على مذهب الكوفيين، ويتفق هذا مع كثير من التعليل، ونحو ذلك.

"الْحَوَارِيُّونَ [آل عمران:52] حواري الرجل صفوته، وخاصته، وفي النسخة الخطية: وخالصته، وفي بعض النسخ: وخلاصته."

خاصته خلاصة الأصحاب مثلًا، لكن خاصته لا نحتاج أن نغير فيها، صفوته، وخاصته.

"ولذلك قال رسول الله ﷺ: لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير[4]."

وإن حواري: تقال بالكسر، والفتح، وإن حواريِ، وإن حواريَ، بالوجهين، بالفتح، والكسر، وهو بمعنى الناصر، والخالص من الأصحاب، والأتباع.

"وقيل: إن الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، ولذلك سماهم الحواريين."

لاحظ الآن على هذا المعنى سماهم الحواريين، الحوارين كانوا قصارين، القصار هو محور الثياب، ومبيضها؛ لأنه يقولون: يدقها بالقصرة، التي هي عبارة عن قطعة من خشب، ويأخذونها من شجر معين العادة، وهو شجر العناب، نبات معروف له ثمر صغير يشبه النبق معروف، ويدق بها، والحرفة يقال لها: قصارة، والخشبة هذه يقال لها: مقصرة، يحورون الثياب، ويبيضونها.

كانوا قصارين يحورون الثياب يعني: يبيضون الثياب، ولذلك سماهم الحواريين، يعني بناء على المهنة، فهذا ما يكون له مزية، ومنقبة، ولا يكون مدحًا، بهذا الاعتبار نسبوا إلى المهنة.

لكن على الأول أن الخلاصة: لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير  فهم خاصة خلاصة الأصحاب، والأتباع، كأن هذا - والله أعلم - أقرب من القول: بأنهم قيل لهم ذلك؛ لأنهم يحورون الثياب، من حرت الثوب إذا أخلصت بياضه بالغسل.

ومن هذا يقال للدقيق الأبيض: خبز الحواري، يعني الذي نقي، وصار في غاية النقاء، والبياض، ليس فيه خلط، وهذا معروف.

وبعضهم يقول: إنه مشتق من حار يحور، إذا رجع، فكأنه قال: راجعون إلى الله، الحواريون، من حار، الماء إذا انطلق، السيل لما وصل إلى مكان مسدود يحور أعوذ بك من الحور بعد الكور[5] قال: "الأنبياء يأتون بمحارات العقول، ولا يأتون بمحالات العقول"[6] بمعنى أنهم لم يأتون بشيء يحيله العقل أبدًا، ولذلك لا نقول أبدًا: الدليل العقلي، والدليل الشرعي، أبدًا؛ لأن الدليل العقلي الصحيح هو من جملة أدلة الشرع، للشرع أدلة أصلية، الكتاب، والسنة، وما يتبع ذلك، ويبنى عليه من الإجماع، والقياس، هذه أربعة، وهناك أدلة أخرى تكميلية تابعة: وهي العقل، والفطرة، هذه كلها أدلة صحيحة، من أدلة الشرع، ولهذا نقول: دل على ذلك العقل، والنقل، ما نقول: دل على ذلك الشرع، والعقل؛ لأن العقل الصحيح من أدلة الشرع، فلا نجعله قسيمًا للشرع، وإنما صار ذلك إلى بعض أهل السنة فيما يقولون، ويكتبون من جراء أهل الكلام، من عباراتهم، وكلامهم؛ لأن أهل الكلام من المعتزلة، والأشاعرة: هم يجعلون العقل بمنأى عن النقل، ويفترضون: أنه يمكن التعارض بين العقل، والنقل، ولذلك يقررون أنه متى ما تعارض العقل، والنقل: فالعقل عندهم مقدم، المعتزلة، والأشاعرة، أصحاب المذاهب الكلامية، يقدمون العقل على النقل، وهذا باطل؛ لأن أصل القضية هذه مبناها على تصور فاسد، أن العقل يمكن أن يعارض النقل، وهذا غير صحيح، لا يمكن أن يتعارض، قد مضى الكلام على هذا في مناسبات، وفي شرح: "طريق الوصول إلى العلم المأمول، بمعرفة القواعد، والضوابط، والأصول".

وذكرت كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا، في كتابه: "درء تعارض العقل، والنقل" وكذلك أيضًا في شرحه "الأصبهانية" فهذه الكتب مليئة لتقرير هذا الأصل، والرد على المتكلمين.

وبعضهم يقول: بأن الحواريين مأخوذ من النقاء، لكن نقاء القلب، يعني خلوص القلب، وبعضهم يقول: سُموا بذلك؛ لبياض ثيابهم، الحواريين، وهذا لا يخلو من بعد كما قلت؛ لأن مثل هذا لا يقتضي مدحًا؛ لأنه قد يلبس البياض من لا خلاق له، لكن حينما يقال: بأن هؤلاء هم خلاصة الأصحاب، الأتباع، أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -.

ولهذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "والصحيح أن الحواري الناصر"[7] وهذا لا يكون لكل الأتباع، واستدل بالحديث السابق في الزبير  فهم خلاصة الأصحاب، الناصرون من الأتباع - والله أعلم -.

  1.  - انظر: بدائع الفوائد (2/21).
  2.  - نظم الدرر في تناسب الآيات، والسور (4/417).
  3.  - تفسير الطبري (22/621) وتفسير ابن كثير (2/45).
  4.  - أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، برقم (4113) وبرقم (7261) كتاب أخبار الآحاد، باب بعث النبي - ﷺ - الزبير طليعة، وحده، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل طلحة، والزبير - ا - برقم (2415).
  5.  - أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ باب ما يقول إذا خرج مسافرا، برقم (3439) والنسائي في الكبرى، برقم (8750) وأحمد في المسند، برقم (20781) وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  6.  - انظر: مجموع الفتاوى (2/312).
  7.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/46).