الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَمَكَرُوا۟ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى مخبراً عن بني إسرائيل فيما هموا به من الفتك بعيسى -عليه الصلاة، والسلام-، وإرادته بالسوء، والصلب حين تمالئوا عليه، ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافراً، فأنهوا إليه أن هاهنا رجلاً يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفند الرعايا، ويفرق بين الأب، وابنه، إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم، ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه، ويصلبه، وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به؛ نجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى، فأخذوه، وأهانوه، وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجَّى نبيه، ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة، وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ، وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة آل عمران:54]".

هذا كما قال الله في الآيات الأخرى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [سورة النساء:157].

مرات الإستماع: 0

"وَمَكَرُوا [آل عمران:54] الضمير لكفار بني إسرائيل، ومكرهم: أنهم، وكلوا بعيسى من يقتله غيلة."

المكر يقال: لصرف الغير عن ما يقصده بحيلة، والله  يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] قيل: المعنى: ألقي شبهه على آخر فقتلوا هذا الذي ألقي شبهه عليه، فظنوا أنهم قتلوه، فمكرهم أنهم دبروا لقتله، والله - تبارك، وتعالى - مكر بهم، فألقى الشبه على غيره، ورفع عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - لم يمسه سوء، وهكذا في قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157، 158].

والحافظ ابن كثير[1] - رحمه الله - يقول: بأنهم، وشوا به إلى ملك زمانهم، وافتروا عليه، حتى أمر بصلبه، يعني ليس هم الذين باشروا الصلب لمن ألقي الشبه عليه، وإنما كانوا يشون به إلى ملك زمانهم، ويقولون: هذا يريد أن ينزع الملك منك، وأنه يجمع الأتباع لذلك، فأمر بصلبه، ولكن هذا الصلب لم يقع على عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - وإنما وقع على شبيه له، ألقي الشبه عليه.

"وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54] أي: رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله، حتى قتل عوضًا منه، وعبر عن فعل الله بالمكر: مشاكلة لقوله: وَمَكَرُوا."

قوله: عُبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة، يعني: أن صفة المكر لا تثبت لله وإنما عبر بها من باب المشاكلة اللفظية فقط، كقول الشاعر: 

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا[2]

فالرجل كان بحاجة إلى لباس، فهم يقولون: ماذا تقترح من الطعام فنصنعه لك؟ فنطبخه لك، فشاكل اللفظ، فقال: اطبخوا لي جبة، وقميصًا، هذا يسمى مشاكلة عندهم، وهي عند كثير منهم: نوع من المجاز، فالمقصود أنه لا حقيقة لذلك عند هؤلاء، حينما يقول: هذا من باب المشاكلة، يعني: اللفظية، وإلا فالصفة غير ثابتة.

وأهل السنة يقولون: بأن المكر إذا كان بمن يستحق، فإنه يكون صفة كمال، فيضاف إلى الله من ذلك ما كان كمالًا، وهو المكر بمن يستحق من المجرمين، والماكرين، ونحو ذلك، ولذلك لا يوصف الله به بإطلاق، هكذا يقال: من صفات الله بأنه ماكر، وإنما يقال: بأن الله - تبارك، وتعالى - يوصف بهذا الوصف، إذا كان كمالًا، يعني يمكر بالماكرين، فلو أن أحدًا مفسدًا مجرمًا ظالماً، أعي الناس بإفساده، وأذاه، فجاء من أخذه بسوء فعاله، بطريقة لم يشعر إلا وقد وقع في مغبة فعله، وسوء عاقبته: فإن ذلك يكون محمودًا في الناس، ويكون كمالًا وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] فكيف يقال: هذا مشاكلة؟ وكثير من أهل العلم يقولون: بأن ذلك لا يكون إلا على سبيل المقابلة وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ والصحيح: أنه لا يشترط في هذا، فإن الله - تبارك، وتعالى - يقول: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] ولم يذكر مكرهم، فما ذكره على سبيل المقابلة، إنما يقال: إنه يكون كمالًا إذا كان موجهًا إلى من يستحق، سواء كان في مقابل مكر مذكور، أو لم يكن أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] لكن قد يكون على سبيل المقابلة، ومكروا مكرًا، ومكرنا مكرًا وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ لكن ليس دائمًا، ليس هذا بشرط، أن يكون في مقابلة المكر - والله أعلم -.

كذلك في الكيد، يقولون: يكون على سبيل المقابلة إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15 - 16] وهذا ليس بشرط أيضًا وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] وما ذكر كيدهم، لكن إذا كان ذلك بمن يستحق فهو كمال، فنحن نثبت لله الكمالات التي أثبتها لنفسه، ولا نقول: إن هذا من باب المشاكلة اللفظية فقط، المشاكلة اللفظية معناها: أن لا حقيقة للوصف، وإنما هو مجرد تعبير وافق عبارة قبله، شاكلها، فهذا من العبارات التي يذكرها المؤلف - رحمه الله - ولا يوافق عليها.

"وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] أي: أقواهم، وهو فاعل ذلك بحق، والماكر من البشر: فاعل بالباطل، أو بباطل."

والماكر من البشر: ليس بلازم أن يكون الماكر من البشر فاعل بالباطل وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ قد يكون الماكر من البشر يمكر بمن يستحق، فهذه صفة أحيانًا تكون كمالًا، وأحيانًا تكون نقصًا، فما كان منقسمًا من الصفات فلله منه الأكمل، ولا يوصف الله به هكذا بإطلاق، فيقال: من صفاته أن الله يقال له: الماكر مثلًا، وإنما يقال: المكر بمن يستحق ذلك، يقول: هو فاعل ذلك بحق وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وهو أعلم بالأسباب التي تحيط بأعدائه، وأشد بطشًا، وأنفذ إرادة.

والطاهر بن عاشور - رحمه الله - في التحرير، والتنوير ذكر: أنه يجوز أن يكون باعتبار أن ذلك المكر خير محض، لا يترتب عليه إلا الصلاح العام[3] وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وإن كان يؤذي شخصًا، أو أشخاصًا، لكن لا يترتب عليه إلا الصلاح العام، فهو يؤذي هذا الممكور به، فهو بالنسبة لهذا الذي وقع عليه المكر: شر، ولكنه بالنسبة للعموم: فإن ذلك يكون صلاحًا، وخيرًا، ونفعًا، وهكذا أفعال الله .

وهو بهذا الاعتبار مجرد عن ما في المكر من القبح، يعني المكر الذي يترتب عليه الصلاح، والمكر الذي يترتب عليه الخير: هو خير محض وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

فسواء كان ذلك من جهة العلم بالأسباب، والإحاطة بالخلق، ونفاذ القدرة، أو كان ذلك باعتبار ما يترتب عليه من الصلاح، والخير: فكل ذلك داخل فيه - والله تعالى أعلم -. 

  1. انظر: تفسير ابن كثير (2/46).
  2. مفتاح العلوم (ص: 424) وخزانة الأدب، وغاية الأرب لابن حجة الحموي (2/253) وزهر الأكم في الأمثال، والحكم (1/194).
  3. التحرير، والتنوير (3/257).