الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا، وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:55-58].
قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55] المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ الآية [سورة الأنعام:60]".

العلماء استشكلوا ذكر الوفاة؛ لأن عيسى ﷺ رفع، ولم يمت، وبالتالي منهم من ادعى في الآية التقديم، والتأخير، أي قال الله: يا عيسى إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، إلى آخره ثم بعد ذلك ومتوفيك، وهذا خلاف الأصل، فالأصل أنه إذا دار الكلام بين الترتيب، والتقديم، والتأخير فالأصل فيه الترتيب.
ومنهم من أجراه على هذا النسق في الترتيب، ولم يدَّعِ فيه التقديم، والتأخير، ثم بعد ذلك اختلفت أقوالهم في تفسير الوفاة، فمن أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا من أن المقصود بالوفاة هي الوفاة الصغرى؛ لأنها تطلق على الوفاة الكبرى التي هي الموت، وتطلق على الوفاة الصغرى التي هي النوم، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [سورة الزمر:42].
ومنهم من قال: إن الوفاة هنا بمعنى الاستيفاء، والقبض، أي أن الله مستوفيك روحاً، وجسداً، كما يعبر ابن جرير - رحمه الله - فيقول: أي قابضك إليَّ لكن ليس بمعنى الموت، لكن تقول: فلان استوفى حقه بمعنى أخذه، فتكون الوفاة هنا بمعنى الأخذ، والقبض، وما أشبه ذلك، وهذا قال به جماعة، ومنهم ابن جرير - رحمه الله -.
ومنهم من يقول غير هذا، لكن ليس المقصود بها الموت قطعاً، وبالتالي فإن قول من قال: إن المقصود أن الله توفاه ست ساعات، أو أربع ساعات، أو نحو هذا، فهذا كلام يخالف الأدلة التي تدل على رفعه، وأنه لم يمت.
ومنهم من يقول: إن المقصود بالوفاة هنا أن نهايته تكون بالوفاة، بمعنى أنهم لن يصلوا إليك، وإنما نهايتك لن تكون بالقتل، لكن هذا لا معنى له أن يفسر به قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55]، وعلى كل حال  لا يقال - قطعاً -: إنه قد توفي بمعنى مات؛ لأن الله لا يجمع على الإنسان موتتين بعد نفخ الروح، وأما قوله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [سورة غافر:11]، فكلام أهل العلم في هذا معروف، وهو أن الموتة الأولى هي حينما كانوا نطفاً أو كانوا في حال العدم، أو غير ذلك، أما إذا صار إنساناً حياً فيه روح فإنه لا يموت موتتين، فالله يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة الروم:40]، وعيسى ﷺ من جملة هؤلاء الخلق.
"قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ الآية [سورة الأنعام:60]، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا  الآية [سورة الزمر:42].
وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور[1]، وقال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:156-157] إلى قوله ...".

سيأتي - إن شاء الله - في قوله: وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ أنها تحتمل أن شبهه ألقي على رجل فظنوا أنه هو كما هو المتبادر، وتحتمل معنى آخر، وهو أنه حصل لهم اشتباه، والتباس في القضية، ولهذا يفسر هذا القائل قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] بمعنى أنهم لم يتحققوا هذا الأمر، وهذا كما تقول: قتلت هذه المسألة بحثاً، وهذا ذكره ابن حزم، لكن هذا فيه بعد - والله أعلم -.
"وقال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:156-157] إلى قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ ​​​​​​​وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:157-159]، والضمير في قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى أي وإن من أهل الكتاب".

يعني قبل موت عيسى ﷺ بمعنى إذا نزل في آخر الزمان يؤمن به من كان موجوداً من أهل الكتاب، ومعروف أنه يضع الجزية فلا يقبلها، ويحصل على يده ما ذكره النبي ﷺ.
ومن أهل العلم من قال: قوله: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي قبل موت الكتابي نفسه، ومعناه أنه لا يموت واحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى الإيمان الصحيح، وهذا نقل عن بعض السلف، عن ابن عباس، حتى قيل له: إن الرجل يقتل، أو يموت بلحظة، أو يطير رأسه بالسيف، فقال: يؤمن به قبل أن يموت، وهذا خلاف قول عامة السلف فمن بعدهم في تفسير الآية الذين يقولون: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى؛ والقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والمذكور الأقرب هنا هو عيسى - عليه الصلاة، والسلام -.
"والضمير في قوله: قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه.
وقوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] أي برفعي إياك إلى السماء وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، وهكذا وقع؛ فإن المسيح ​​​​​​​ لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله، ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدل لهم دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه، ونقص منه، ووضعت له القوانين، والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير".

يعني أن هذا الملك هو الذي أفسد دين النصارى، حتى قيل: إنه أدخل النصرانية في الوثنية، ولم يدخل هو في النصرانية، وحصل الاجتماع المعروف الشهير في التاريخ، وأقروا فيه التثليث، وصار الموحدون مستضعفين مستذلين مضطهدين.
يبقى الإشكال في قوله - تبارك، وتعالى - هنا: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55] يعني ما المراد؟ هل المراد أتباع المسيح من أهل التوحيد من الموحدين؟، فهؤلاء ما كان لهم ظهور بعد عيسى ﷺ بل بالعكس كانوا يتخطفون، ويضطهدون، والنصارى مختلفون غاية الاختلاف حتى جاء قسطنطين هذا فزاد في الشر، أو أن المراد وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] يعني الذين ينتسبون إلى النصرانية، أو قل ممن ينتسبون إلى عيسى ﷺ .
وقوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي فوق الذين كفروا به، وهم اليهود، وليس الذين كفروا بالله؛ لأن النصارى لما قالوا بأن الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك فهم أيضاً كفروا بالله، لكن النصارى يزعمون أنهم أتباع المسيح، وعلى هذا تكون الآية لا إشكال فيها، ولا شك أن النصارى حصل لهم ظهور على اليهود، وصار اليهود يضطهدون في ممالك النصارى فهذا معروف في التاريخ، بل كانوا يتتبعون الواحد بعد الواحد، ويُؤخذون، ويقتلون، وحصل أكثر من مرة أن ملوك الرومان، واليونان كانوا يتتبعون اليهود حيث صدر أكثر من قرار بتتبع اليهود، وقتلهم.
فهؤلاء الأتباع هل المقصود بهم أهل التوحيد أم المقصود بهم من ينتسبون إلى عيسى، ولو كانوا على التثليث؟ الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: لما كان للنصارى شعبة من أتباع المسيح - عليه الصلاة، والسلام - حيث آمنوا بعيسى ﷺ كانوا فوق اليهود، ولما كانت هذه الأمة ملتزمة بالحق كانت ظاهرة على النصارى، فمعنى كلام ابن القيم واضح، وهو أن قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يعني من ينتسبون إليك، ولو كانوا من أهل التثليث، فطائفة النصارى فوق طائفة اليهود.
ومن يقول: إن المقصود بالأتباع هم أهل الحق، والتوحيد، فهذا الظهور يفسر ببعثِ محمد ﷺ ، وذلك أنه لما جاء محمد ﷺ قتل اليهود، وحاربهم، وحصل ما حصل، وصاروا في غاية الاستذلال، والضعف، ثم لما تُرك اتباعه ﷺ، وضيع دينه، علا اليهود، وارتفعوا كما هو مشاهد.
"وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس، والمعابد، والصوامع، والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه".

وبعضهم يقول: إنه نقل صومهم من الحر إلى وقت الاعتدال، أو البرد، ثم زاده عشرة أيام من أجل المعاوضة، وصار الصوم أربعين يوماً.
قوله: "وبنى المدينة المنسوبة إليه"، يعني القسطنطينية، واتبعه الطائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود".

توجد طائفة من النصارى معروفة - ذكرها صاحب كتاب الملل، والنحل - ينتسبون إلى الملك قسطنطين.
"أيدهم الله عليهم؛ لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله".

كلام ابن كثير هذا يوافق كلام ابن القيم، وهو أن المقصود بالأتباع هم من ينتسبون إلى عيسى، أي من يدَّعون اتباعه - عليه الصلاة، والسلام -.
"فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله على الوجه الحق، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، وسيد ولد آدم الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته، وطريقته مع ما قد حرفوا، وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك، لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير، ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض، ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.. الآية [سورة النــور:55:]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب، وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى  باب، وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى (5955) (ج 5 / ص 2327)، ومسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار - باب ما يقول عند النوم، وأخذ المضجع (2711) (ج 4 / ص 2083).

مرات الإستماع: 0

"إِذْ قَالَ اللَّه [آل عمران:55] العامل فيه: فعل مضمر (أو يمكر)."

كما ذكرنا من قبل: بأن "إذ" هذه كثير من أهل العلم يقولون: بأنها متعلقة بمحذوف، واذكروا إذ قال الله، واذكر إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، هذا معنى العامل فيه مضمر، فعل مضمر، يعني: واذكر، أو يمكر. 

وابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن إذ متعلقة بالمكر وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ حين قال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ هذا باعتبار أنه متعلق بما قبله، وليس بمقدر محذوف، يعني القول الأول: بأنه متعلق بمقدر محذوف (واذكر يا محمد) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، وعلى المعنى الآخر: أنه متعلق بما مضى في الآية قبله إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ حين قال لعيسى - عليه الصلاة، والسلام - إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فرفعه، وألقى شبهه على غيره، فظنوا أنهم قتلوه، فكان هذا من مكره - تبارك، وتعالى - بهم إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى فيكون هذا تفسيرًا للمكر المذكور سابقًا، فلا يحتاج إلى تقدير. 

والقاعدة: أن الأصل عدم التقدير، لكن اشتهر كثيرًا عند العلماء في مثل هذه المواضع في القرآن: أنه يكون متعلقًا بمقدر (اذكر) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] اذكروا إذ جاءوكم، وهكذا إذ قلتم، واذكروا إذ قلتم، ونحو ذلك، إذ قال الله إني متوفيك.

"إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] قيل، وفاة موت، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، وقيل: يعني وفاة نوم، وقيل المعنى: قابضك من الأرض إلى السماء."

لاحظ الآن هذه المعاني، نحن عندنا أصل قاعدة ذكرناها في بعض المناسبات، وهي: أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، فالمقدم هو الحقيقة الشرعية، فهنا الوفاة تقال: للوفاة الكبرى بالموت، وتقال: للوفاة الصغرى بالنوم، هذا يقال له: وفاة اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] فهذه وفاة النوم بنص القرآن، وكذلك الموت.

وهناك الوفاة في اللغة: من الاستيفاء، لاحظ المعاني التي يذكرها المفسرون، تدور على هذين، فالذين قالوا: بأنها موتة حقيقية، ثم أحياه الله في السماء، هذا القول، وهو قول ضعيف، ولا دليل عليه: فسروها بالمعنى الشرعي للوفاة، وهو الموت، لكن الموتة الكبرى.

والذين قالوا: رفعه في حال النوم، فسروها بالمعنى الشرعي، وهذا أقرب، أنه لو رفع في حال النوم.

والذين فسروها بالمعنى اللغوي قالوا: قولًا لا ينافيه، لا ينافي الأخير هذا، لكنه ينافي الذي قبله، ينافي من قال: أنه مات، وأحياه الله في السماء، لكن إذا قالوا: إنه رفع في حال النوم، قالوا: بأن الوفاة بمعنى الاستيفاء، استوفاه، إني مستوفيك روحًا، وجسدًا، استوفى الشيء: يعني أخذه، وافيًّا، يعني لم يكن الرفع لجسده من غير روح، ولم يكن الرفع للروح، وإنما مستوفيك، يعني روحًا، وجسدًا، فهذا، وإن كان تفسيرًا بالمعنى الجاري على اللغة، إلا إنه يرجع إلى ما قبله المعنى الشرعي، الذي هو بمعنى النوم، وليس الوفاة الكبرى.

صار هذان المعنيان مشهوران عند العلماء، فبعضهم يقول: رفع في حال النوم، وبعضهم قال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفيك روحًا، وجسدًا، ففسره بالمعنى اللغوي.

لكن القاعدة كما ذكرت: أنه إذا دار بين المعنى الشرعي، والمعنى اللغوي، فالمقدم المعنى الشرعي، الحقيقة الشرعية، لماذا؟ لأن الشارع يتكلم في الشرعيات، وكل متكلم فإنما يحمل كلامه على عرفه، أو معهوده، ومعهود الشارع الشرعيات، الشارع يتكلم في الشرعيات، فإذا قال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام:72] فنفسرها بالصلاة بالمعنى الشرعي، إلا لدليل، الصلاة ذات القيام، والركوع، والسجود إلى آخره.

لكن إذا وجد دليل على إرادة المعنى اللغوي حمل عليه خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] بمعنى ادع لهم، فسرناها بالمعنى اللغوي؛ لوجود دليل، وهو أن النبي ﷺ كان إذا جاءه أحد بصدقته، قال: اللهم صل على آل فلان، اللهم صل على آل أبي أوفى[1] فهذا دليل على إرادة المعنى اللغوي في هذا الموضع، فإذا كان كذلك، فيكون في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قوله هنا: وفاة الموت هذا بعيد، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال.

لاحظ: هذا التفسير يختلف عن ما سبق، هذا فسره بوفاة الموت، لكن قال: في نهاية المطاف، بعد ما ينزل، كيف يتفق إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ؟ فهؤلاء يضطرون إلى القول: بأن في الآية تقديمًا، وتأخيرًا، يعني يكون الكلام هكذا: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي - ما ذكر الوفاة - ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ومتوفيك، يعني بعد ما تنزل، ولا تقبل من الناس الجزية، وإنما تقبل الإسلام، أو السيف، ففي هذه يكون: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] بهذا، وفي غيره مما ذكرته في بعض المناسبات.

قيل: بأن ذلك حصل على يد النبي ﷺ ظهور الحق، وبعضهم يقول: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن أتباع المسيح ظهروا على اليهود، وإن كان الذين ظهروا إنما ظهروا حينما دخل قسطنطين في النصرانية، ملك الروم، أو اليونان، قسطنطين ملك الرومان، دخل في النصرانية، وبعضهم يقول: إنه أدخل النصرانية في وثنيته، فهذا الرجل هو الذي أفسد دين النصرانية، وفي مجمع نيقية أقرت عقيدة التثليث رسميًا، وتبنتها الدولة، وصار الذين يوحدون الله صاروا في حال من القتل، والاستضعاف، كما هو معلوم.

فلم يكن لأتباع المسيح الحقيقيين أي ظهور، ولهذا فإن بعض أهل العلم قالوا: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قالوا: بالحجة، والبرهان، والواقع أن هذا لا يقتصر على الحجة، والبرهان، بل الظهور الحقيقي، فذهب بعضهم، وأيده الحافظ ابن القيم[2] - رحمه الله -: إلى أن من له شائبة اتباع بالمسيح - حتى، ولو كان أهل التثليث - فإنهم صاروا قاهرين لليهود، ينادون عليهم بالأمصار، والمدن التابعة للرومان، فيقتل من فيها، يعني في كل مرة يتأذون من أعمال اليهود: فينادون في ناحية من البلاد، في الشام، وغيرها، بقتل كل يهودي فيقتلون، وقالوا: هذا ظهور لأتباع المسيح، لمن له شائبة اتباع المسيح، ولو كان على باطل، كأهل التثليث.

وبعضهم قال: كان هذا الظهور على يد النبي ﷺ فقد أخرج اليهود من المدينة، أخرج بني قينقاع، وبني النضير، وفعل بقريظة ما فعل، قتل كل المقاتلة، وسبى النساء، والذرية، فهذا ظهور، وكذلك أيضًا أهل خيبر، ظهر عليهم وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] وكما قال الله : فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] ما هذا الظهور؟

والأقرب، والله أعلم: بأن ذلك يكون بالعاقبة، ولقد ظهر النبي ﷺ عليهم، وظهرت هذه الأمة على اليهود.

فهنا يقول: وقيل رُفع حيًّا، ووفاة الموت بعد أن ينزل، هذا صعب؛ هذا القول كما عرفتم يحتاج إلى دعوى، وهي أن في الآية تقديمًا، وتأخيرًا، إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ومتوفيك.

والقاعدة - القواعد الترجيحية: أنه إذا دار الكلام بين الترتيب، أو التقديم، والتأخير، فالأصل في الكلام: الترتيب، هذا معنى القواعد الترجيحية، التي مبناها على الترجيح، يعني أنها مصرحة بالترجيح.

وليس معناها لربما يقرر بعض الفضلاء: بأن أي قاعدة يرون المفسر رجح بها قولًا على قول سموها قاعدة ترجيحية، فعلى هذا كل قواعد التفسير هي قواعد ترجيحية، بلا استثناء؛ لأنه يُرجح بها، فالترجيح يكون من القواعد، ويكون بكل ما يمكن أن يُتقوى به، كما قال الأصوليون: بأن الترجيح له أكثر من مائة طريق، أكثر من هذا، يعني الآمدي وحده ذكر - فيما يحضرني الآن - أكثر من مائة، وعشرين طريقًا في الترجيح، الآمدي في كتابه "الإحكام في الأصول" فضلًا عن غيره كثير، يذكرون من طرق الترجيح المتنوعة، الترجيح بأدلة من الكتاب، بأدلة من السنة، الترجيح بالإجماع، الترجيح بالقياس، الترجيح بغير ذلك من القواعد، أكثر من مائة طريق للترجيح.

عامة الأصوليين يقولون: بأن الترجيح طرقه لا تنحصر؛ لأن يحصل بكل ما يتقوى به الظن، فإذا قلنا: القواعد الترجيحية فمعنى ذلك: أنها القواعد التي بُنيت هذا البناء، مصرحة بالترجيح، إذا دار الكلام بين التأسيس، أو التوكيد: فالتأسيس مقدم على التوكيد، إذا دار الكلام بين الترتيب، أو التقديم، والتأخير - يعني دعوى التقديم، والتأخير - فالأصل: أن الترتيب مقدم؛ لأن الكلام يأتي على هذا النسق في كلام الله .

هكذا يقال: إذا قيل: قاعدة ترجيحية، قد كتبت رسائل جامعية، ماجستير، ودكتوراه، كلها مبناها على ذلك الفهم، أن كل ما رجح به فهو قاعدة ترجيحية، فينظرون إلى المفسر، يجردون الكتاب، فيجدون هذا المفسر رجح بهذه القاعدة: وضعوها قاعدة ترجيحية، وهكذا.

هذا لا ينحصر بهذه التي رجح بها المؤلف هذا، أو ذاك، وإنما كل القواعد يرجح بها، بل تدخل كل القواعد، ويقال: هي قواعد ترجيحية، ولا معنى لهذا القيد أصلًا بهذا الاعتبار أن نقول: ترجيحية، كما يقال في الأدلة، فلا يقال: أدلة ترجيحية، فهي أدلة من حيث هي - والله أعلم -.

قوله: وقيل: يعني وفاة نوم، لاحظ: هذا تفسير له بالمعنى الشرعي، وكأن هذا هو الأقرب، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وعزاه للأكثر من العلماء، وقال به جمع من السلف كالربيع بن أنس[3] كما قال الله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60] يَتَوَفَّاكُمْ هذه الوفاة الصغرى، فسماها، وفاة اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وهكذا.

الحديث: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا[4] فسماها موتة، يعني النوم، قال: وفاة نوم.

وقيل: المعنى قابضك من الأرض إلى السماء، لاحظ: هذا تفسير له بالمعنى اللغوي، يعني حيًّا بروحه، وجسده، دون نوم، أو موت، لا تعرض لذلك، بمعنى الاستيفاء، لاحظ: قابضك من الأرض إلى السماء، يعني مستوفيك روحًا، وجسدًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله[5] والواحدي[6] وكذلك القرطبي[7] قال به جماعة من السلف، كالحسن[8] وابن جريج[9] وقال به محمد بن جعفر بن الزبير[10] وابن زيد[11].

فصار عندنا معنيان قريبان: الأول: الوفاة بمعنى النوم، والثاني: الاستيفاء روحًا، وجسدًا، وإن أردنا أن نرجح بينهما نقول: النوم؛ لأنه يوافق المعنى الشرعي، فهذا يجري على القاعدة التي ذكرناها، لكن لما كان المعنى الثاني (مستوفيك روحًا، وجسدًا) لا ينافيه: صار ذلك عائدًا إليه، إلا إنه لم يذكر فيه النوم، يعني رفعه، وليس ذلك مقيدًا بكونه في حال نوم، رفع روحًا، وجسدًا.

وبعضهم يقول: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هذا بمعنى أنه إخبار، أو تطمين إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أنه لا يكون موته بقتل، يعني باعتبار أن الوفاة هي خروج الروح من غير تسبب بقصد، من غير مباشرة، وما كان بمباشرة الغير يقال له: قتل، قال: مات حتف أنفه، يعني: من غير مباشرة أحد، بإزهاق روحه، ويكون القتل بمباشرة غيره، هذا الفرق بين القتل، والموت حتف الأنف، أو الوفاة، وإلا فالقتل هو موت بلا شك أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144] قابل بينهما، فالقتيل ميت، لكن ليس موته حتف أنفه أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144] القتل يكون بمباشرة غيره بإزهاق الروح.

"وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى السماء وَمُطَهِّرُكَ أي: من سوء جوارهم."

هو مطهره وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى السماء هذا واضح وَمُطَهِّرُكَ أي: من سوء جوارهم.

مطهرك من سوء جوارهم، مخلصك ممن كفر بك، ومخرجك من بينهم، برفعي إياك إلى السماء، كما قال الله وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:110] فخلصه منهم.

"الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ [آل عمران:55] هم المسلمون، وعلوهم على الكفرة بالحجة، وبالسيف في غالب الأمر، وقيل: الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى، والَّذِينَ كَفَرُوا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود، وإذلالهم لهم."

أشرت إلى هذا قبل قليل وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] فقال: القول الأول: هم المسلمون، وهذا الذي اختاره ابن جرير[12] والواحدي[13].

وعلوهم على الكفرة بالحجة، وبالسيف في غالب الأمر، لكن هل كان هذا لأتباع المسيح الخلص، هذا التوحيد؟ هذا لم يكن في التاريخ، إذًا متى كان هذا الظهور؟

قالوا: على يد محمد ﷺ فدعوى الأنبياء واحدة، وهم إخوة لعلات، يعني أن أصل الدين الذي جاءوا به واحد، والشرائع تتفاوت، وتختلف، وتتنوع، فالنبي ﷺ جاء بدين الإسلام، الذي جاء به عيسى - عليه الصلاة، السلام - ودعا إليه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فكان هذا الظهور على يد النبي ﷺ وأتباعه.

يقول: وقيل: الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى، هذا الذي أشرت إلى أن ابن القيم[14] مال إليه، وهو اختيار الحافظ ابن كثير[15] أيضًا، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[16] والطاهر ابن عاشور[17] أيضًا، أن هذا كان ظهور الذين اتبعوهم النصارى، لكن النصارى كانوا على التثليث، يعني الذين كانت لهم قوة فعلًا، ودولة، واضطهدوا اليهود، وقتلوهم، بأي اعتبار؟

بالاعتبار الذي عبر عنه الحافظ ابن القيم: بأن من كان له شائبة اتباع للمسيح - عليه الصلاة، والسلام - فذلك أقرب من اليهود الذين قالوا: ابن زانية، وعملوا، ودبروا لقتله، قالوا: هذا الذي يعظمه، وإن غلا فيه، وقال: إنه إله، أو ثالث ثلاثة، هذا ليس كالذي قال: ابن زنا  - عليه الصلاة، والسلام - هذا معنى كلام ابن القيم، ومن وافقه.

فقالوا: هذا الظهور حصل للنصارى، ولو كانوا على باطل، على اليهود وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ [آل عمران:55] فهم يعتبرون أنفسهم مشهور أنهم يقال لهم: نصارى، وإن كانوا على الشرك، لكنهم لهم نوع تعلق بالمسيح، بخلاف اليهود الذين قالوا فيه ما قالوا - والله أعلم -. 

الَّذِينَ كَفَرُوا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود، وإذلالهم لهم، الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مع المعنى الذي ذكره، من أن النصارى كذلك لهم نصيب من اتباعه، فكانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، يقول: "ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى: كانوا فوق النصارى"[18] وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ النصارى، والمسلمون فوق الجميع، وهذا أيضًا ذكر نحوه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[19].

يعني كأنهم قالوا كل ذلك، لظهور النصارى على اليهود، وظهور المسلمين على الجميع وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ابن عطية عزى إلى الجمهور - جمهور المفسرين - القول بعموم اللفظ في المتبعين[20] وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فيدخل فيهم أمة محمد ﷺ كما قاله قتادة[21] وهكذا قالوا بعموم اللفظ في الكافرين وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيكون أتباعه من النصارى، ومن أمة محمد ﷺ.

فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا: بعموم اللفظ في الكافرين، لكن بالنسبة لعموم اللفظ في الكافرين لا يخلو من إشكال، باعتبار أن إذا قلنا: النصارى الذين صار لهم ظهور، وهم الذين قالوا بالتثليث، حينما دخل قسطنطين في النصرانية، فهؤلاء من جملة الكافرين المشركين، يعني عموم الكافرين لو قيل: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] فكيف يكون الذين اتبعوه - على قول ابن القيم، وابن كثير - من له نوع اتباع للمسيح، أو تعلق بالمسيح من هؤلاء النصارى، ولو كانوا على الشرك، والتثليث، فكيف يقال: بالعموم بالنسبة فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا من هم هؤلاء؟

قسطنطين، ومن لف لفه من أصحاب عقيدة التثليث، لكن الذي يظهر فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن المقصود اليهود؛ لأن بني إسرائيل انقسموا إلى قسمين من بعد عيسى  - عليه الصلاة، والسلام - فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ الذين كفروا، وهم اليهود - والله أعلم - فالسياق يبين هذا، مع أن ظاهر اللفظ يحتمل عموم الكافرين وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا لكن السياق كأنه يدل على أن المقصود اليهود - والله تعالى أعلم -.

  1.  - أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، برقم (6332) ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، برقم (1078).
  2.  - هداية الحيارى في أجوبة اليهود، والنصارى (1/340).
  3.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/47).
  4.  - أخرجه مسلم، كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب ما يقول عند النوم، وأخذ المضجع، برقم (2711).
  5.  - تفسير الطبري (5/451).
  6.  - التفسير الوسيط للواحدي (1/441).
  7.  - تفسير القرطبي (4/100).
  8.  - تفسير الطبري (5/449).
  9.  - تفسير الطبري (5/449).
  10.  - المصدر السابق (5/453).
  11.  - المصدر السابق (5/450).
  12.  - المصدر السابق (5/454).
  13.  - التفسير الوسيط للواحدي (1/442).
  14.  - انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/185) وهداية الحيارى في أجوبة اليهود، والنصارى (1/340).
  15.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48).
  16.  - تفسير السعدي (ص: 132).
  17.  - التحرير، والتنوير (3/260).
  18.  - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/185).
  19.  - انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48).
  20.  - تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/445).
  21.  - تفسير البغوي - طيبة (2/46).