قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55] المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ الآية [سورة الأنعام:60]".
العلماء استشكلوا ذكر الوفاة؛ لأن عيسى ﷺ رفع، ولم يمت، وبالتالي منهم من ادعى في الآية التقديم، والتأخير، أي قال الله: يا عيسى إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، إلى آخره ثم بعد ذلك ومتوفيك، وهذا خلاف الأصل، فالأصل أنه إذا دار الكلام بين الترتيب، والتقديم، والتأخير فالأصل فيه الترتيب.
ومنهم من أجراه على هذا النسق في الترتيب، ولم يدَّعِ فيه التقديم، والتأخير، ثم بعد ذلك اختلفت أقوالهم في تفسير الوفاة، فمن أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا من أن المقصود بالوفاة هي الوفاة الصغرى؛ لأنها تطلق على الوفاة الكبرى التي هي الموت، وتطلق على الوفاة الصغرى التي هي النوم، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [سورة الزمر:42].
ومنهم من قال: إن الوفاة هنا بمعنى الاستيفاء، والقبض، أي أن الله مستوفيك روحاً، وجسداً، كما يعبر ابن جرير - رحمه الله - فيقول: أي قابضك إليَّ لكن ليس بمعنى الموت، لكن تقول: فلان استوفى حقه بمعنى أخذه، فتكون الوفاة هنا بمعنى الأخذ، والقبض، وما أشبه ذلك، وهذا قال به جماعة، ومنهم ابن جرير - رحمه الله -.
ومنهم من يقول غير هذا، لكن ليس المقصود بها الموت قطعاً، وبالتالي فإن قول من قال: إن المقصود أن الله توفاه ست ساعات، أو أربع ساعات، أو نحو هذا، فهذا كلام يخالف الأدلة التي تدل على رفعه، وأنه لم يمت.
ومنهم من يقول: إن المقصود بالوفاة هنا أن نهايته تكون بالوفاة، بمعنى أنهم لن يصلوا إليك، وإنما نهايتك لن تكون بالقتل، لكن هذا لا معنى له أن يفسر به قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55]، وعلى كل حال لا يقال - قطعاً -: إنه قد توفي بمعنى مات؛ لأن الله لا يجمع على الإنسان موتتين بعد نفخ الروح، وأما قوله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [سورة غافر:11]، فكلام أهل العلم في هذا معروف، وهو أن الموتة الأولى هي حينما كانوا نطفاً أو كانوا في حال العدم، أو غير ذلك، أما إذا صار إنساناً حياً فيه روح فإنه لا يموت موتتين، فالله يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة الروم:40]، وعيسى ﷺ من جملة هؤلاء الخلق.
وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور[1]، وقال الله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:156-157] إلى قوله ...".
سيأتي - إن شاء الله - في قوله: وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ أنها تحتمل أن شبهه ألقي على رجل فظنوا أنه هو كما هو المتبادر، وتحتمل معنى آخر، وهو أنه حصل لهم اشتباه، والتباس في القضية، ولهذا يفسر هذا القائل قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] بمعنى أنهم لم يتحققوا هذا الأمر، وهذا كما تقول: قتلت هذه المسألة بحثاً، وهذا ذكره ابن حزم، لكن هذا فيه بعد - والله أعلم -.
يعني قبل موت عيسى ﷺ بمعنى إذا نزل في آخر الزمان يؤمن به من كان موجوداً من أهل الكتاب، ومعروف أنه يضع الجزية فلا يقبلها، ويحصل على يده ما ذكره النبي ﷺ.
ومن أهل العلم من قال: قوله: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي قبل موت الكتابي نفسه، ومعناه أنه لا يموت واحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى الإيمان الصحيح، وهذا نقل عن بعض السلف، عن ابن عباس، حتى قيل له: إن الرجل يقتل، أو يموت بلحظة، أو يطير رأسه بالسيف، فقال: يؤمن به قبل أن يموت، وهذا خلاف قول عامة السلف فمن بعدهم في تفسير الآية الذين يقولون: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى؛ والقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والمذكور الأقرب هنا هو عيسى - عليه الصلاة، والسلام -.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه.
وقوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] أي برفعي إياك إلى السماء وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، وهكذا وقع؛ فإن المسيح لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله، ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدل لهم دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه، ونقص منه، ووضعت له القوانين، والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير".
يعني أن هذا الملك هو الذي أفسد دين النصارى، حتى قيل: إنه أدخل النصرانية في الوثنية، ولم يدخل هو في النصرانية، وحصل الاجتماع المعروف الشهير في التاريخ، وأقروا فيه التثليث، وصار الموحدون مستضعفين مستذلين مضطهدين.
يبقى الإشكال في قوله - تبارك، وتعالى - هنا: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55] يعني ما المراد؟ هل المراد أتباع المسيح من أهل التوحيد من الموحدين؟، فهؤلاء ما كان لهم ظهور بعد عيسى ﷺ بل بالعكس كانوا يتخطفون، ويضطهدون، والنصارى مختلفون غاية الاختلاف حتى جاء قسطنطين هذا فزاد في الشر، أو أن المراد وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] يعني الذين ينتسبون إلى النصرانية، أو قل ممن ينتسبون إلى عيسى ﷺ .
وقوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي فوق الذين كفروا به، وهم اليهود، وليس الذين كفروا بالله؛ لأن النصارى لما قالوا بأن الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك فهم أيضاً كفروا بالله، لكن النصارى يزعمون أنهم أتباع المسيح، وعلى هذا تكون الآية لا إشكال فيها، ولا شك أن النصارى حصل لهم ظهور على اليهود، وصار اليهود يضطهدون في ممالك النصارى فهذا معروف في التاريخ، بل كانوا يتتبعون الواحد بعد الواحد، ويُؤخذون، ويقتلون، وحصل أكثر من مرة أن ملوك الرومان، واليونان كانوا يتتبعون اليهود حيث صدر أكثر من قرار بتتبع اليهود، وقتلهم.
فهؤلاء الأتباع هل المقصود بهم أهل التوحيد أم المقصود بهم من ينتسبون إلى عيسى، ولو كانوا على التثليث؟ الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: لما كان للنصارى شعبة من أتباع المسيح - عليه الصلاة، والسلام - حيث آمنوا بعيسى ﷺ كانوا فوق اليهود، ولما كانت هذه الأمة ملتزمة بالحق كانت ظاهرة على النصارى، فمعنى كلام ابن القيم واضح، وهو أن قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يعني من ينتسبون إليك، ولو كانوا من أهل التثليث، فطائفة النصارى فوق طائفة اليهود.
ومن يقول: إن المقصود بالأتباع هم أهل الحق، والتوحيد، فهذا الظهور يفسر ببعثِ محمد ﷺ ، وذلك أنه لما جاء محمد ﷺ قتل اليهود، وحاربهم، وحصل ما حصل، وصاروا في غاية الاستذلال، والضعف، ثم لما تُرك اتباعه ﷺ، وضيع دينه، علا اليهود، وارتفعوا كما هو مشاهد.
وبعضهم يقول: إنه نقل صومهم من الحر إلى وقت الاعتدال، أو البرد، ثم زاده عشرة أيام من أجل المعاوضة، وصار الصوم أربعين يوماً.
توجد طائفة من النصارى معروفة - ذكرها صاحب كتاب الملل، والنحل - ينتسبون إلى الملك قسطنطين.
كلام ابن كثير هذا يوافق كلام ابن القيم، وهو أن المقصود بالأتباع هم من ينتسبون إلى عيسى، أي من يدَّعون اتباعه - عليه الصلاة، والسلام -.
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب، وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى باب، وضع اليد اليمنى تحت الخد اليمنى (5955) (ج 5 / ص 2327)، ومسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار - باب ما يقول عند النوم، وأخذ المضجع (2711) (ج 4 / ص 2083).