الذي يتضمن دين اليهود، والنصارى، أو يتضمنه لا إشكال، وكذلك أيضًا: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رد على المشركين من عودة الأوثان، الذين كان يدعون أنهم على دين إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - فيكون ردًا على الطوائف الثلاثة، التي تنازعت في إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - والعلماء كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "اقتضاء الصراط المستقيم" وفي غيره: بأن اليهود أقل إشراكًا من النصارى بكثير[1] كما هو معلوم، الشرك عند اليهود أقل من النصارى، النصارى دينهم مبني على الشرك، هذا الأصل عندهم، فضلًا عن العبادة لغير الله مِن مَن يعظمونهم، لكن اليهود عندهم إشراك وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] هذا بنص القرآن.
ولا يقال: إن اليهود لم يكن عندهم شرك، لكنهم كفروا بالنبي ﷺ وبعيسى، فكانوا كفارًا بذلك، الكفريات عند اليهود كثير، يمكن أن يصنف منها كتاب، يعني في قتلهم للأنبياء، وعتوهم على الله، وتمردهم، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] وغير ذلك كثير مما قصه القرآن، تحريف الكتاب المنزل، والكذب على الله، والافتراء، وإتباع ما تتلوا الشياطين السحرة، في عهد سليمان - عليه الصلاة، والسلام - إلى غير ذلك، فاليهود عندهم كفريات كثير، وعندهم إشراك، والله يقول أيضًا في باب التشريع: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] فهذا يشمل اليهود، والنصارى.
قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في إبراهيم ﷺ وَمَا كَانَ نفي الكون الماضي، هذا أيضًا يتضمن النفي في المستقبل وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] فهذا يكون في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ولذلك استدل بمثل هذا على أن إبراهيم ﷺ لم يكن على دين قومه قط، وأن ما جرى في سورة الأنعام مما قصه الله من المناظرة مع عبدة الكواكب: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76] إلى أن قال: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] إلى أن قال: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا [الأنعام:78 - 79] الآية، فهذا صحيح أنه قاله مناظرًا لا ناظرًا، بعض العلماء يقولون: قاله ناظرًا لا مناظرًا، يعني ما قال على سبيل التنزل مع الخصم في المناظرة، قاله ناظرًا، يعني كان يعتقد بربوبية الكوكب، فكان يبحث عن الحق قبل النبوة، وهذا كلام غير صحيح، والراجح أن الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - عمومًا لم يكونوا على دين قومهم، وذكرت هذا في بعض المناسبات في التعليق على "المصباح" أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] في قصة شعيب - عليه الصلاة، والسلام -
وأن العود في لغة العرب كما قال الثعالبي في فقه اللغة: أنه يطلق على الصيرورة، المستقبل مطلقًا، ويقال لعودة الشيء إلى ما كان عليه، حتى يعود اللبن في الضرع[2] لكن تقول: عاد الصبي شيخًا، هذا لم يكن شيخًا من قبل، حتى يكون رجع إلى حاله الأولى، وعاد الطين خزفًا، هو لم يكن خزفًا، وعاد الماء ثلجًا، هو لم يكن ثلجًا، فهذا معنى الصيرورة، صار أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] أي تصيرون إلى ملتهم من الإشراك بالله - تبارك، وتعالى - والله أعلم -.
فهنا (وما كان): هذا مما يحتج به بعض أهل العلم على القول الراجح: أن الأنبياء لم يكونوا على دين قومهم، ومنهم إبراهيم، وما جرى له من المناظرة مع عبدة الكواكب، إنه ما كان قط على الشرك.