الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [سورة آل عمران:76] أي: لكن من أوفى بعهده، واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد ﷺ إذا بعث، كما أخذ العهد، والميثاق على الأنبياء، وأممهم بذلك، واتقى محارم الله تعالى، واتبع طاعته، وشريعته التي بعث بها خاتم رسله، وسيد البشر، فإن الله يحب المتقين".

في قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [سورة آل عمران:76]، يقول ابن كثير -رحمه الله -: "أي لكن من أوفى بعهده، واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان.." إلى آخره.
ومن أهل العلم من يجعل قوله: بَلَى مفصولاً عما بعده، بمعنى بلى عليكم سبيل ما دمتم تقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، ثم أتى بجملة استئنافية تقرر معنىً، وهو الثناء على الموفين بعهدهم والوعد الجميل لهم، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:76]، هذا احتمال، وإن كان ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو المتبادر من ظاهر السياق - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"قوله: بَلَى عليهم سبيل، وفي النسخ أي عليهم سبيلٌ، وتباعةٌ في أموال الأميين."

هذا ليس بحلٍ لهم بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] بلى من أوفى بعهده، الحافظ بن كثير - رحمه الله - يقول في معنى هذه الآية: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: "أي: لكن من أوفى بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه، من الإيمان بمحمد ﷺ إذا بعث، كما أخذ العهد، والميثاق على الأنبياء، وأممهم بذلك، واتقى محارم الله، واتبع طاعته، وشريعته التي بعث بها خاتم رسله، وسيد البشر فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[1].

فالمعنى الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - بَلَى يعني يكون ذلك من قبيل الرد عليهم، يعني هم يقولون: أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب، فالله يقول: بَلَى بلى يعني عليهم سبيل، ليس كما قالوا، وادعوا عليهم السبيل، بل عليهم سبيل، وتبعه في أموال الأميين، لا تحل لهم بلى، وعلى هذا تكون مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تكن جملة استئنافية على هذا الاعتبار، لكن على قول ابن كثير - رحمه الله - أن بلى هنا بمعنى لكن، بلى من أوفى، لكن من أوفى بعهده، يعني بخلاف هؤلاء الخونة الذين يستحلون الخيانة، وأخذ أموال الناس بالباطل بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] أوفى بعهده الذي عاهد الله عليه، وأخذ الله منه العهد، أخذ الميثاق على اللذين أوتوا الكتاب بالإيمان، بمحمد ﷺ وببيان الكتاب إلى غير ذلك مما يدخل بالعهد أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [آل عمران:76] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13] فتكون هذه جملة واحدة بلى من أوفى بعهده، واتقى فإن الله يحب المحسنين، يعني الذين يوفون بعهدهم، ويؤدون الحق الذي عليهم فإن الله يحب المتقين.

"قوله: بِعَهْدِهِ [آل عمران:76] الضمير يعود على من، أو على الله."

بِعَهْدِهِ الضمير يعود على من، يعني من هؤلاء من أهل الكتاب مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني العهد الذي أُخذ عليه، تقول فلان أوفى بعهده، يعني العهد الذي تعلق به، وأُنيط به، وأُخذ عليه، والمعنى الثاني: أن ذلك يرجع إلى الله أَوْفَى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله، أوفى بما عهد عليه الله، وهذا المعنى كما ترون يختلف عن الأول، لكن في المآل فإن ذلك يمكن أن يرجع إلى معنىً واحد، من أي جهة؟ من جهة أن هذا العهد المُشار إليه مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني العهد الذي أُخذ عليه، فمن الذي أخذ عليه العهد؟ هو الله بهذا الاعتبار، ولكن قد لا يكون بهذا المعنى المنحصر بما ذكرت، يعني قد يكون العهد بينه، وبين الناس مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني عهد هنا مفرد مضاف إلى المعرفة، الهاء الضمير، والمفرد المضاف يعم من صيغة عموم، يعني من أوفى بعهوده هذا إذا قُلنا: الضمير أن يرجع إليه هو صاحب العهد مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يعني بعهوده مفرد مضاف بعهوده التي عاهد عليها ربه، والتي أخذ الله عليه بها العهد، والتي أيضًا بينه، وبين الناس بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ [آل عمران:76].

والمعنى الثاني: فمن أوفى بعهده أي في عهد الله الذي أخذه عليه، فهذه العهود كلها دل القرآن على أنه يجب الوفاء بها، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا فهذا مدح، وثناء من الله - تبارك، وتعالى - على هؤلاء من أهل الوفاء لمُطلق العهود، موفون بعهدهم يعني مع الله، ومع الناس، والعهد مع الله أثنى عليه أيضًا، كما في الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] فهذا من العهود، والآية إذا كانت تحتمل معنيين، وكل معنى منها دل عليها دليل من القرآن، أو من السنة، فيمكن أن تُحمل الآية على هذه المعاني؛ لأن حملها على واحد منها يكون من قبيل التحكم، يعني من غير دليل، هذا المعنى ليس بخصوص هذه الآية، لكن يذكره ابن جرير كثيرًا، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ينص على هذه القاعدة[2] ويرددها في كتابه فيما يحتمل من المعاني.

وابن جرير قد لا يذكرها بنصها، لكنه يذكر مؤداها في المواضع التي تحتمل معنيين، لا سيما إذا دل دليلٌ على صحة كلٍّ من هذه المعاني، فلا تُحمل على واحد منها دون الآخر؛ لأن ذلك من قبيل التحقق، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، من أوفى بعهده بعهد الله عليه، وأوفى أيضًا هو بما عليه من عهود لله، وللناس، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91].

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/62).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/312).