يقول تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ أصل اللّي هو الميل بمعنى التحريف، ويدخل فيه تحريف الألفاظ، وتحرف المعاني.
هذا الأثر عن ابن عباس معناه أن التحريف إنما هو من جهة المعنى فقط؛ لأن التحريف لا يكون في الألفاظ، لأنهم لا يستطيعون ذلك، وهذا قول قال به بعض أهل العلم، في مسألة معروفة، وهي هل الكتب التي حُرِّفت هل حرفوا ألفاظها أم أن المقصود بالتحريف هو تحريف المعاني؟
من أهل العلم من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا، وابن عباس في هذا الأثر ذكر أنه يكون في المعاني بمعنى أنه يقع في تحريف تفسيرها، وقد ذكر البخاري هذا الأثر تعليقاً، وكأنه - رحمه الله - يرجح هذا، وبهذا لا يختص ذلك بأهل الكتاب، وإنما هو موجود أيضاً عند طوائف من هذه الأمة من المعتزلة، والرافضة، ونحوهم ممن حرفوا كتاب الله ، فكل منهم يحمله على غير معناه متبعاً للهوى، فهذا من التحريف، فالتحريف المعنوي لا يختص باليهود، ولا بالنصارى بل هو موجود في هذه الأمة.
وبالنسبة للكلام في تحريف الألفاظ أخبر الله عن التوراة أن حفظها موكول إلى الأحبار، والربانيين، قال الله : بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء [سورة المائدة:44] فهو سبحانه، وكل حفظها إليهم، فكان ذلك فرقاً بينها، وبين القرآن، فالقرآن تعهد الله بحفظه، وهذه وكلها إلى علمائهم فحرفت، وبدلت، وبقي القرآن محفوظاً.
هذان قولان، وهناك قول ثالث، وهو أن التحريف إنما وقع في القراطيس التي كانوا يبدونها، كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] حيث كانوا يحرفون في تلك القراطيس التي يخرجونها للناس؛ إذ لم يكونوا يخرجون لهم أصل الكتاب، وإنما يخرجون لهم تلك القراطيس، وأما هذه الكتب فهي محفوظة لم تحرف.
وعلى كل حال هذا نوع من التحريف الذي وقعوا به، وهو كتابة تلك القراطيس، والتبديل فيها، ووقعوا في التحريف من جهة المعاني، ويدل عليه ما جاء في قصية اليهودي، واليهودية لما زنيا كانوا يحممونهم، ويضعونهم على حمار... إلى آخره، فدعا النبي ﷺ بالتوراة، فكان الحبر قد وضع أصبعه على آية الزنا، وأخبر عن غير الحق الذي في كتابهم، وأنه لا يوجد عندهم الرجم، فهذا كان من تحريف المعنى، ومن الكذب على الله ؛ إذ إن آية الرجم كانت مكتوبة، فلما قال عبد الله بن سلام : مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، هناك ظهرت آية الرجم تلوح، فهذا مما يحتج به من يقول: إن التحريف كان في المعاني.
هذه ثلاثة أقوال معروفة لأهل العلم، والذي يظهر - والله أعلم -، وهو الذي عليه كثير من أهل العلم سلفاً، وخلفاً أن التحريف واقع في الألفاظ، وفي المعاني، ويدل عليه الواقع من خلال التناقضات الموجودة في كتبهم، والأناجيل المتعددة؛ إلا أن المخالف الذي يقول إن التحريف كان في المعنى يقول: نُسخ التوراة منتشرة في الآفاق، ولو أن أحداً حرف فيها شيئاً لافتضح، وظهر تحريفه، لكن يقال: هذا خلاف الواقع، فالواقع يدل على أنها تحرف، وتبدل، وتغير، ولا يتفطنون لها، لأنهم لا يحفظونها أصلاً، وإلا كيف ضاعت؟ وكذلك الإنجيل ما كتب كما هو معروف في التاريخ إلا بعد المسيح - عليه الصلاة، والسلام - بمدة طويلة، وهي أناجيل كثيرة، ومتعددة، والتحريف فيها لا شك فيه إطلاقاً، ففي كتبهم أشياء تشيب لها رءوس الولدان من نسبة الموبقات، والفواحش للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - مما لا يجرؤ الإنسان على نقلها، وحكايتها مما يقطع أنه كذب، وأنه ليس من عند الله .
ومن أهل العلم من بالغ في الطرف الآخر فقال: هذه الكتب كل ما فيها محرف، وبناءً عليه يجوز امتهانها، وهذا كلام غير صحيح، بل فيها أشياء كثيرة ليست محرفة، وفيها أشياء محرفة، فلا يجوز امتهانها لما اشتملت عليه من كلام الله الذي لم يحرف، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - له كلام في هذا حيث يرى أن الذي حُرف من ألفاظها قليل، وأن الغالب هو تحريف المعاني.
وعلى كل حال من أكثر ما يُحتج به اليوم على اليهود، والنصارى عند مناظرتهم هو التناقضات الموجودة في كتبهم.
قوله: وليس أحد يزيل لفظ كتاب الله من كتب الله ، ولكنهم يحرفونه، يتأولونه عن غير تأويله، في رواية الكشميهني: يتأولونه على غير تأويله، قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية، وهو مختاره - أي البخاري -، وقد صرح كثير من أصحابنا بأن اليهود، والنصارى بدلوا التوراة، والإنجيل، وفرعوا على ذلك جواز امتهان أوراقهما، وهو يخالف ما قاله البخاري هنا، انتهى.
وهو كالصريح في أن قوله: وليس أحد إلى آخره من كلام البخاري, ذيّل به تفسير ابن عباس، وهو يحتمل أن يكون بقية كلام ابن عباس في تفسير الآية، وقال بعض الشراح المتأخرين: اختلف في هذه المسألة على أقوال، أحدها: أنها بدلت كلها، وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان، وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر، وإلا فهي مكابرة، والآيات، والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [سورة الأعراف:157]، ومن ذلك قصة رجم اليهوديين، وفيه، وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:93].
ثانيها: أن التبديل وقع، ولكن في معظمها، وأدلته كثيرة، وينبغي حمل الأول عليه.
ثالثها: وقع في اليسير منها، ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه الرد الصحيح على من بدل دين المسيح.
رابعها: إنما وقع التبديل، والتغيير في المعاني لا في الألفاظ، وهو المذكور هنا، وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجرداً، فأجاب في فتاويه أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها قوله تعالى: لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الأنعام:115]، وهو معارض بقوله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181]، ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي، وعلى المعنى في الإثبات؛ لجواز الحمل في النفي على الحكم، وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ، والمعنى، ومنها أن نسخ التوراة في الشرق، والغرب، والجنوب، والشمال لا يختلف، ومن المحال أن يقع التبديل، فتتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد".
طبعاً شيخ الإسلام لا يقرر هذا، ولكنه يورد أدلة من يقول: إن التحريف كان بالمعنى، ويرد عليها.
وقد سرد أبو محمد بن حزم في كتابه الفصل في الملل، والنحل أشياء كثيرة من هذا الجنس، من ذلك أنه ذكر أن في أول فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند رهبانهم، وقرائهم، وعاناتهم، وعيسويهم حيث كانوا في المشارق، والمغارب لا يختلفون فيها على صفة واحدة، لو رام أحد أن يزيد فيها لفظة، أو ينقص منها لفظة لافتضح عندهم متفقاً عليها عندهم إلى الأحبار الهارونية الذين كانوا قبل الخراب الثاني يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني، وأن الله تعالى قال: لما أكل آدم من الشجرة، هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير، والشر، وأن السحرة عملوا لفرعون نظير ما أرسل عليهم من الدم، والضفادع، وأنهم عجزوا عن البعوض، وأن ابنتي لوط بعد هلاك قومه ضاجعت كل منهما أباها بعد أن سقته الخمر، فوطئ كلاً منهما فحملتا منه، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة المستبشعة، وذكر في مواضع أخرى أن التبديل وقع فيها إلى أن أعدمت، فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن".
قوله: "فأملاها عزرا المذكور " يعني عزير في القصة التي هي من الإسرائيليات، والتي يوردها بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة البقرة:259]، وحاصلها أنه مات منذ مدة طويلة جداً، ثم لما بُعث وجد اليهود ليس منهم أحد يحفظ التوراة، فقرأها عليهم.
والخلاصة أن بعضهم يقول: إنه حصل تحريف فجاء عزير فأملى عليهم التوراة المحفوظة، وأن هذا هو الذي لا تختلف فيه النسخ الآن، لكن يقال: الواقع اليوم يدل على أن التحريف موجود.
ويقال لهؤلاء المنكرين: قد قال الله تعالى في صفة الصحابة: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلى آخر السورة [سورة الفتح:29]، وليس بأيدي اليهود، والنصارى شيء من هذا، ويقال لمن ادعى أن نقلهم نقل متواتر: قد اتفقوا على أن لا ذكر لمحمد ﷺ في الكتابين، فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نُقِل نقْل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه أن لا ذكر لمحمد ﷺ، ولا أصحابه".
هذا طريق في المجادلة، حيث يقولون: هؤلاء نقلوا التوراة نقلاً متواتراً فكيف يصح أن يقع التحريف في الألفاظ؟ فهو يرد عليهم فيقول: إذا كنتم تستدلون بهذه الطريقة، فإذاً هم يقولون: لا يوجد عندنا وصف النبي ﷺ في هذا الكتاب، فصدقوهم إذاً!! مع أن القرآن مصرح بأن صفته ﷺ مذكورة.
وقال الشيخ بدر الدين الزركشي: اغتر بعض المتأخرين بهذا - يعني بما قال البخاري - فقال: إن في تحريف التوراة خلافاً، هل هو في اللفظ، والمعنى، أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني، ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا، وبدلوا، والاشتغال بنظرها، وكتابتها لا يجوز بالإجماع.
وقد غضب ﷺ حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي[1]، ولولا أنه معصية ما غضب فيه.
قلت: إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه، وقد قيده بالاشتغال بكتابتها، ونظرها، فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره، فلا يحصل المطلوب، لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز، وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضاً، فقد نسب لوهب بن منبه، وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونسب أيضاً لابن عباس ترجمان القرآن، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر، والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها".
يريد أن يقول: إن هذا ثابت عن ابن عباس، ووهب بن منبه أنها لم تحرف ألفاظها، فلا حاجة أن يحمل على هذه المحامل، وأن يدعى الإجماع على ذلك.
نعم هي حرِّفت، وبدلت لكن قصة عمر يمكن للمخالف أن يجيب عنها فيقول: النبي ﷺ أنكر عليه القراءة فيها، والنظر فيها؛ لئلا يشتغلوا بشيء عن القرآن، وإلا فإن النبي ﷺ يقول: لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي، وموسى - عليه الصلاة، والسلام - نبي الله، ويوحى إليه، ومع ذلك لا يسعه، فكيف بالتوراة، ولو لم تكن قد حرفت؟! فقد جاء القرآن، وهو ناسخ لها، فالنبي - عليه الصلاة، والسلام - أنكر على عمر هذا الاشتغال، والنظر فيها بصرف النظر عن كونها محرفة، أو غير محرفة فإن هذا أمر آخر، والمقصود أنه يمكن أن يجاب بهذا.
الكلام السابق من كتاب فتح الباري لابن حجر في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج:21 - 22] الجزء الثالث عشر، صفحة خمسمائة، وخمسة، وعشرين، وذكره ابن كثير في البداية، والنهاية - الجزء الثاني من الطبعة القديمة، صفحة مائة، وسبعة، وأربعين، بعنوان: تحريف أهل الكتاب، وتبديلهم أديانهم.
تحريف أهل الكتاب، وتبديلهم أديانهم
أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران ، وكانت كما قال الله تعالى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:154]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى، وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ، وَضِيَاء، وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ [سورة الأنبياء:48]، وقال تعالى: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الصافات:117-118]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44].
فكانوا يحكمون بها، وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها، وتبديلها، وتغييرها، وتأويلها، وإبداء ما ليس منها كما قال الله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:78]، فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم، مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف، والوضيع.
فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون: إنها جميعها بدلت، وقال آخرون: لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ [سورة المائدة:43]، وقوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ... الآية [سورة الأعراف:157]، وبقوله: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:93]، وبقصة الرجم فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وفي السنن عن أبي هريرة، وغيره لما تحاكموا إلى رسول الله ﷺ في قصة اليهودي، واليهودية اللذين زنيا فقال لهم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، فأمرهم رسول الله ﷺ بإحضار التوراة فلما جاءوا بها، وجعلوا يقرءونها، ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور يده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له رسول الله ﷺ: ارفع يدك يا أعور فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فأمر رسول الله ﷺ برجمهما، وقال: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه[2].
وعند أبي داود أنهم لما جاءوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها، وقال: آمنت بك، وبمن أنزلك[3]، وذكر بعضهم أنه قام لها، ولم أقف على إسناده، - والله أعلم -.
وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين، وغيرهم: إن التوراة انقطع تواترها في زمن بختنصر، ولم يبق من يحفظها إلا العُزير، ثم العُزير إن كان نبياً فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال: إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا، ويحيى، وعيسى، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة، فلو لم تكن صحيحة معمولاً بها لما اعتمدوا عليها، وهم أنبياء معصومون.
ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء - صلوات الله، وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء - منكراً على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم، وأنهم مأمورون به حتماً إلى التحاكم إلى رسول الله ﷺ، وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد، والتحميم المصادم لما أمر الله به حتماً، وقالوا: إن حكم لكم بالجلد، والتحميم فاقبلوه.. إلى آخره.
وقال وهب بن منبه: إن التوراة، والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى، لم يغيَّر منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف، والتأويل، وكتبٍ كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ويقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول [رواه ابن أبي حاتم:].
فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل، والتحريف، والزيادة، والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهَد بالعربية ففيه خطأ كبير، وزيادات كثيرة، ونقصان.
نعم، هذا من جهة الترجمة، والترجمة هي بناءً على فهم المترجم، فهي تفسير في الواقع، وليست ترجمة حرفية؛ لأن هذا لا يمكن، فليس الكلام في الترجمة، إنما الكلام في الأصول باللغات التي نزلت عليها هذه الكتب.
إذا جئنا بترجمات القرآن الكريم، وقمنا بالمقارنة بينها فإننا سنجد التفاوت بينها، ومع ذلك لا يقال: إن حصول هذا التفاوت بين الترجمات يدل على وقوع التحريف في القرآن؛ لأن الترجمة هي من باب التفسير، لذلك لا بد لمن أراد أن يترجم إلى اللغات الأخرى أن يفهم، ويرجح، فالمسألة ليست سهلة، وإنما تحتاج إلى معرفة تامة باللغتين، وتحتاج أيضاً إلى علم بالتفسير، وللأسف فإن الذي يقع في أحسن أحوال المترجم الآن أنك تجده يعرف اللغتين معرفة جيدة، وأما المعاني فشيء آخر.
هذا على كلام وهب أي: إن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل، والتحريف، والزيادة، والنقص، وإما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده فهذا بعيد أن يكون مراداً لوهب، أو لابن عباس؛ لأن المحرفين إنما يتسلطون على ما بأيديهم.
- أخرجه أحمد (15195) (ج 3 / ص 387) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد.
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:
- أخرجه أبو داود في كتاب الحدود - باب في رجم اليهوديين (4451) (ج 4 / ص 264) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4449).