"أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب، والحكم، والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي، ولا لمرسل، فلئلا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى، والأحرى، فالجهلة من الأحبار، والرهبان، ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم، والتوبيخ، بخلاف الرسل، وأتباعهم من العلماء العاملين؛ فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به، وبلغتهم إياه رسله الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه، وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل - صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين - هم السفراء بين الله، وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتمَّ قيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق.
وقوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79] أي، ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين، قال ابن عباس - ا -، وأبو رزين، وغير واحد: أي حكماء علماء حلماء.
وقال الضحاك في قوله: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79] حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ تحفظون ألفاظه".
فقوله تبارك، وتعالى: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، بعض أهل العلم يقول: هذا منسوب إلى الرب، والرب يطلق على معانٍ - كما سبق في الكلام على الفاتحة - منها السيد، ومنها المربي الذي يربي خلقه بالنعم الظاهرة، والباطنة، يربي قلوبهم بالإيمان، ويربي أجسادهم بما يسبغ عليهم من نعمه، وإفضاله، وعطائه، وجوده، فالرباني هنا من أهل العلم من يقول: إنه منسوب إلى الرب، ففيه معنى التربيب، والتربية، فهو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ومنهم من يقول: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، يعني أرباب العلم، يعني العالمين بدين الرب - تبارك، وتعالى -، ورب الشيء هو صاحبه، كما في قول عبد المطلب: أنا رب الإبل، والبيت له رب يحميه، يعني أنا صاحب الإبل، فمنهم من يقول: إن الربانيين بمعني الأصحاب، أى أنهم أصحاب العلم، يعني أهل العلم، ومنهم من يقول: إن الرباني منسوب إلى الرَّبَّان.
وعلى كل حال، كثير من السلف يجمع في معناها، وتفسيرها بين العلم، والحكمة، أو العلم، والعمل، والذي يظهر - والله أعلم - أن هذه اللفظة لا تدل على العلم فحسب، بل هي تدل على العلم، وعلى معنىً آخر، فمعنى الحكمة، والفقه متحقق فيها، ويضاف إلى ذلك العالم الذي يعمل بعلمه، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره، ويكون مصلحاً لغيره، فهو الذي يُحسن سياسة الناس بهذا العلم، ويتكلم حيث يظن أن الكلام ينفع، ويمسك عن بعض العلم حيث لا يكون محلاً لبثه، وإشاعته، وما إلى ذلك من المعاني، فهي تشمل هذه الأقوال التي قالها السلف .
وقوله تبارك، وتعالى: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79]، أي بسبب كونكم عالمين بالكتاب، وبسبب دراستكم للعلم، فإن هذا يحمل، ويقتضي من صاحبه أن يكون ربانياً، أي أن يكون عاملاً بعلمه، وأن يكون حكيماً مصلحاً لحاله، ولحال غيره.
وهذا على هذه القراءة، وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ، يعني بهذا السبب، أي أن تعليمكم الكتاب ينتج عنه هذه الصفة، والمعنى كونوا ربانيين بسبب تعليمكم؛ فإن الذي يعلم الناس بالكتاب ينبغي أن يكون عاملاً، وأن يكون حكيماً في تعليمه، فلا يلقي عليهم كل ما يعلمه، وإنما يلقي عليهم ما يصلح لمثلهم في كل مقام بحسبه، ومن ذلك أنه يعلم الناس صغار العلم قبل كباره، ويحمله تعليم الكتاب، أو العلم بالكتاب إلى العمل به، وإلى أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر أيضاً، وحثهم على طاعة الله ، وما أشبه ذلك.
وعلى القراءة الأخرى - قراءة أبي عمرو، وأهل المدينة -: بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمون الْكِتَابَ - بفتح التاء، وتخفيف اللام المفتوحة - يكون المعنى كونوا ربانيين بسبب علمكم بالكتاب.
ومن أشمل من تكلم في هذه الآية - فيما وقفت عليه - ابن جرير - رحمه الله تعالى -،
يقول ابن جرير - رحمة الله تعالى عليه -: قال أبو جعفر، وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني، وأن الرباني الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم، ويربها، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:
وكنت امرأً أفضت إليك ربابتي | وقبلك ربتني فضعت ربوب |
قال: فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، وكان الربان ما ذكرنا، والرباني هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي، وصفت، وكان العالم بالفقه، والحكمة من المصلحين يرب أمور الناس، بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم، وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم، ودنياهم، كانوا جميعاً يستحقون أن يكونوا ممن دخل في قوله : وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79].
فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه، والعلم، وأمور الدين، والدنيا، ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم، والفقه، والبصر بالسياسة، والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم، ودينهم".
يعني ليس الفقيه فقط، أو العالم فقط، بل العالم الذي يربي الناس، ويرجعون إليه، ويفزعون إليه فيما نابهم في مشكلاتهم، ويكون له قيام بالحق، ودعوة لهؤلاء الناس، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وما أشبه ذلك.