يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات، والأرض، أي استسلم له من فيهما طوعاً ،وكرها، كما قال تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا الآية [سورة الرعد:15]، وقال تعالى: أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة النحل:48-50]، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً؛ فإنه تحت التسخير، والقهر، والسلطان العظيم الذي لا يخالف، ولا يمانع.
وقد روى وكيع في تفسيره عن مجاهد: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: هو كقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25].
وروى عن ابن عباس: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: حين أخذ الميثاق، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83]، أي يوم المعاد، فيجازي كلاًّ بعمله".
وجه الإشكال هو كيف يكون إسلام الكافر في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83]، فقوله: طَوْعًا هذا بالنسبة للمؤمن، وقوله: وَكَرْهًا هذا بالنسبة للكافر، فهي إما أن تفسر بهذا بالتفسير، بمعنى أن الله يتصرف فيه كما يشاء، حتى هذا البدن فإنه يقوم بإقامة الله له حسب سنة أجراها في تدبيره، وقيامه كما هو معلوم، أضف إلى ذلك ما يقع له من الأمور التي يقدرها عليه فهو لا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا الانفكاك منه، فيولد بقدر الله في وقت محدد، ويموت بقدر الله، والله يكتب رزقه، وأجله، وعمله، ولا يكون له قليل، ولا كثير إلا بإرادة الله الكونية، ويصرِّفه كيف يشاء، فهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير أولاً.
أو يكون أسلم كرهاً بمعنى أنه إذا عاين في الآخرة، أو عاين في الدنيا عند الهلكة حين لا يستطيع الخلاص، والفكاك، والنجاة كما حصل لفرعون، ولغير فرعون سواء كان في الدنيا، أو في الآخرة عند ذلك يذعن، ويقر، ويستسلم، وهذا المعنى فيه بعد، والله لم يحدد في ذلك وقتاً، وإنما أطلقه، والأصل أن المطلق يبقى على إطلاقه، وهذه الآية لا تفهم بمعزل عن الآيات الأخرى التي تذكر سجود من في السماوات، والأرض لله - تبارك، وتعالى -، وما إلى ذلك من المعاني التي تدل على خضوع الخلق التام لربهم، ومليكهم .
ومنهم من يقول غير هذا كما ذكر ابن كثير هنا عن ابن عباس أنه قال: إن هذا حين أخذ الميثاق، قال لهم: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [سورة الأعراف:172]، فيكون هذا هو الإسلام، - والله أعلم -.