الخميس 08 / ذو الحجة / 1446 - 05 / يونيو 2025
أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ* قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:83-85].
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات، والأرض، أي استسلم له من فيهما طوعاً ،وكرها، كما قال تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا الآية [سورة الرعد:15]، وقال تعالى: أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ۝ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة النحل:48-50]، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً؛ فإنه تحت التسخير، والقهر، والسلطان العظيم الذي لا يخالف، ولا يمانع.
وقد روى وكيع في تفسيره عن مجاهد: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: هو كقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25].
وروى عن ابن عباس: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83] قال: حين أخذ الميثاق، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83]، أي يوم المعاد، فيجازي كلاًّ بعمله".

وجه الإشكال هو كيف يكون إسلام الكافر في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [سورة آل عمران:83]، فقوله: طَوْعًا هذا بالنسبة للمؤمن، وقوله: وَكَرْهًا هذا بالنسبة للكافر، فهي إما أن تفسر بهذا بالتفسير، بمعنى أن الله يتصرف فيه كما يشاء، حتى هذا البدن فإنه يقوم بإقامة الله  له حسب سنة أجراها في تدبيره، وقيامه كما هو معلوم، أضف إلى ذلك ما يقع له من الأمور التي يقدرها عليه فهو لا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا الانفكاك منه، فيولد بقدر الله في وقت محدد، ويموت بقدر الله، والله يكتب رزقه، وأجله، وعمله، ولا يكون له قليل، ولا كثير إلا بإرادة الله  الكونية، ويصرِّفه كيف يشاء، فهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير أولاً.
أو يكون أسلم كرهاً بمعنى أنه إذا عاين في الآخرة، أو عاين في الدنيا عند الهلكة حين لا يستطيع الخلاص، والفكاك، والنجاة كما حصل لفرعون، ولغير فرعون سواء كان في الدنيا، أو في الآخرة عند ذلك يذعن، ويقر، ويستسلم، وهذا المعنى فيه بعد، والله لم يحدد في ذلك وقتاً، وإنما أطلقه، والأصل أن المطلق يبقى على إطلاقه، وهذه الآية لا تفهم بمعزل عن الآيات الأخرى التي تذكر سجود من في السماوات، والأرض لله - تبارك، وتعالى -، وما إلى ذلك من المعاني التي تدل على خضوع الخلق التام لربهم، ومليكهم .
ومنهم من يقول غير هذا كما ذكر ابن كثير هنا عن ابن عباس أنه قال: إن هذا حين أخذ الميثاق، قال لهم: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [سورة الأعراف:172]، فيكون هذا هو الإسلام، - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"أَفَغَيْرَ [آل عمران:83] الهمزة للإنكار، والفاء عطفت جملةً على جملة، وغير مفعول قُدّم للاهتمام به، أو للحصر."

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] الهمزة للإنكار، والفاء عطفت جملةً على جملة، وغير مفعول قُدّم للاهتمام به، أو للحصر، يعني تقديم ما حقه التأخير يُشعر الحصر، وهو يدل أيضًا على الاهتمام بالمقدم.

"قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ [آل عمران:83] أي: انقاد، واستسلم، طَوْعًا وَكَرْهًا مصدرٌ في موضع الحال، والطوع للمؤمنين، والكره للكافر إذا عاين الموت، وقيل: عند أخذ الميثاق المتقدم، وقيل: إقرار كل كافرٍ بالصانع هو إسلامه كرهًا."

هنا في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ [آل عمران:83] "أي انقاد، واستسلم طَوْعًا وَكَرْهًا مصدرٌ في موضع الحال" يعني حال كونه طائعًا، أو حال كونه مكرهًا، "والطوع للمؤمنين، والكره للكافر" متى يكون الكافر مسلمًا بهذا الاعتبار؟ يقول: إذا عاين الموت يعني: يعلم عندها، يُبشر بالنار، لكن لا ينفعه ذلك، أو عاين الهلاك، وبأس الله فإذا عاينوا بأس الله قالوا: آمنا، وفرعون لما عاين الهلاك قال: آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فعلى هذا التفسير يكون أهل الإيمان آمنوا طوعًا، وغيرهم آمنوا مرغمين، هذا وجه في أن المراد في حال المعاينة التي لا ينفع معها الإيمان.

وقيل: عند أخذ الميثاق المتقدّم، وله أسلم أنهم أسلموا، وإذا أخذه قالوا: شهدنا، وهذا قال به ابن عباس - ا - إن هذا الإسلام بالنسبة لهؤلاء الكفار عند أخذ الميثاق.

 يقول: وقيل: إقرار كل كافرٍ بالصانع هو إسلامه كرهًا، هذا كما يقول قتادة: بأنه نظير قول الله - تبارك، وتعالى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61] ففُسر بهذا، وقيل غير ذلك، يعني من الأقوال القريبة بتوجيهه، يعني من أسلم كرهًا بالنسبة للكفار بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم تحت قهره، وتصرفه، وهم مستسلمون لقضائه، وقدره، لا يخرجون عن إرادته، وهذا قريب، ولعله أوضح، وأقرب مما ذُكر.

إسلام الكافر كرهًا باعتبار أنه مُدبر مُصرف لا يخرج عن إرادة الله وهو تحت قهره، وهذا الذي ذكره الشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ونسبه إلى عامة السلف[1] بأن المراد بالاستسلام هنا لله بالخضوع، والذل أيضًا، لكن شيخ الإسلام لا يقصره على مجرد القهر، وتصريف الرب لهم، بل أنهم أيضًا خاضعون ذليلون لله - تبارك، وتعالى - كما في قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15] وهكذا في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل:48] نعم يعني: خاضعون ذليلون، وهكذا وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ [النحل:49].

  1. انظر: مجموع الفتاوى (7/264) و(7/426).