الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
قُلْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلْأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [سورة آل عمران:84] يعني القرآن، وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ، وَيَعْقُوبَ [سورة آل عمران:84] أي من الصحف، والوحي، وَالأَسْبَاطِ، وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [سورة آل عمران:84]".

سبق الكلام عن الأسباط في سورة البقرة، وهل المراد بهم تلك القبائل، أو البطون من بني إسرائيل، المتشعبة عن أولاد يعقوب؟ أو المراد بهم أولاد يعقوب؟
من أهل العلم من يقول: المراد بالأسباط أولاد يعقوب، والكلام قي نبوتهم معروف، وأما ما وقع لهم مع يوسف ﷺ، فقالوا: إنه كان قبل نبوتهم.
وعلى كل حال فالقبائل من بني إسرائيل يقال لهم أسباط، والله  ذكر الأسباط في سورة الأعراف فقال: أَسْبَاطًا أُمَمًا  [سورة الأعراف:160]، وفي بعض المواضع يحتمل المقام أن يكون المراد بهم أولاد يعقوب، أو المراد بطون بني إسرائيل بمعنى الأنبياء الذين وجدوا فيهم، فيكون معنى وَالأَسْبَاطِ أي، وما أنزل على هؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل.
والله - كما سبق - في سورة البقرة يقول: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ [سورة البقرة:140]، فالأقرب إلى ظاهر السياق أن يكون المراد بالأسباط أولاد يعقوب - عليه الصلاة، والسلام -، مع أن بعض أهل العلم يقول: هم الأنبياء الذين كانوا من ذريتهم، ونسلهم، بمعنى أن الأسباط قبائل بني إسرائيل المتناسلة من هؤلاء، - والله أعلم -.
"وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [سورة آل عمران:84] يعني بذلك التوراة، والإنجيل، وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ [سورة آل عمران:84]، وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة آل عمران:84]، يعني بل نؤمن بجميعهم، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:84]، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبيٍ أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم مصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبيٍ بعثه الله. 

مرات الإستماع: 0

"قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] أُمر النبيّ ﷺ أن يُخبر عن نفسه، وعن أمّته بالإيمان وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] تعدى هنا بَعْلِى مناسبةً لقوله: قل، وفي البقرة بإلى لقوله: قولوا، لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علوٍ، ونزوله على هذا المعنى مختصٌ بالنبي ﷺ وإلى حرف غاية، وهو موصلٌ إلى جميع الأمّة."

قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] يقول: أُمر النبيّ ﷺ أن يُخبر عن نفسه، وعن أمّته بالإيمان وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] تعدى هنا بَعلى مناسبةً لقوله: قل، وفي البقرة بإلى لقوله: قولوا، لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علوٍ، ونزوله على هذا المعنى مختصٌ بالنبي ﷺ يعني النبي ﷺ هنا مأمور قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] خطاب للنبي ﷺ فجاء بالعبارة المشعرة بالنزول من الوحي من الله من أعلى إلى أسفل وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] وآية البقرة: قُولُوا آمَنَّا [البقرة:136] الخطاب للأمة، فجاء ب"إلى" التي تدل على وصول ذلك إليهم وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] أي واصلٌ إليهم من النبي ﷺ هكذا قال، وهذا يذكره أصحاب التفسير البلاغي، وأيضًا الذين يتحدثون عن الـمتشابه اللفظي، هذا من قبيل المتشابه اللفظي في القرآن، لماذا عبر هنا بكذا، ولماذا عبر بكذا؟ تجدون هذا في متن كتاب: "البرهان في توجيه متشابه القرآن" للكرماني، ومثل كتاب: "درة التأويل" للإسكافي، وكذلك في كتاب: "ملاك التأويل" للغرناطي، وكذلك هنا كتاب آخر أيضًا لزكريا الأنصاري.

عمومًا هؤلاء يذكرون هذه الوجوه، ويذكرون أشياء غير قليلة متكلفة في التوجيه، فبعض ما يذكرونه قريب له وجه، وبعضه في غاية البعد، والتكلف - والله أعلم - فما ظهر، واستبان من هذا قُبل، وما كان غامضًا، فإنه لا يُقال لئلا يكون الإنسان قائلًا على الله به بلا علم.

يقول: لماذا يتجه بعض العلماء إلى محامل بعيدة، وأقوال متكلفة؟

هم يحاولون أن يوجهوا هذا لماذا قال هنا كذا، ولماذا قال هنا كذا، فيكدون الأذهان يستخرجون مثل هذه الأوجه، ولكن هي بعيدة، وأيضًا حينما تقرأ فيها، يعني لما تقرأها تجد أحيانًا أنها بها حالٍ من الغموض، ولو كانت ظاهرة لما كانت غامضة، يعني هذا التوجيه من هذا المتشابه، فأحيانًا يكون الوجه قريب، وظاهر، وملحظ جيد، وأحيانًا لا، وأما إذا كان ذلك في الكلام المنقول عن أعجمي - غير العرب - بكلامهم فهذا أيضًا أكثر إشكالًا؛ لأن المنقول من ذلك إنما هو مؤداه، ومعناه، وليس بألفاظه، كما هو معلوم، فنقل الكلام من لغةٍ إلى لغة، يتكلم بالأعجمية، فيكون المنقول هو المؤدى، والمعنى، ولذلك تجد أحيانًا حكاية، وقصة، وكذا في موضعين، تجد العبارة هنا كذا، ويستخرجون منها معاني بلاغية، الألفاظ من نفس الألفاظ، ولا شك أن المعاني الهدايات التي دلت عليها ثابتة بلا شك، لكن كلام على الملحظ اللفظي، وتجد اللفظة في موضعٍ آخر، تجد العبارة قد تكون فيها مغايرة، لكن قد تنقض الكلام الأول الذي قالوه، قد تنقضه، يعني خذ على سبيل المثال قوله - تبارك، وتعالى - في قصة الملائكة، لما جاءوا إلى إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وبشروه بالغلام ففي سورة الذاريات قالت امرأة إبراهيم - عليها السلام - لما بُشرت: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29].

 الحافظ ابن القيم يقول: "فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ، ولم تقل أنا عجوز عقيم"[1] فلا تطول الحديث مع الرجال، عبرت بكلمتين، لكن في الموضع الآخر: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] كلام طويل فهل عبرت بكلمتين فقط؟ هذا كلام منقول معناه بالمعنى؛ لأنه أعجمي في أصله، هم لا يتكلمون العربية، فالوقوف عند الألفاظ من الناحية البلاغية، الهدايات لا شك، هنا لماذا عبرت هنا بكذا، وعبرت هنا بكذا، ونحو ذلك، لا يخلو من الإشكال، وفي نفس القصة تجد أشياء أيضًا من هذا القبيل، التفاوت اللفظي، وحمل ذلك على محامل عند بعض البلاغيين لا يخلوا من إشكال، يعني مثلًا إبراهيم - عليه الصلاة، السلام - قال لهم: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] يقول ابن القيم: "لم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش"[2] فلا يليق أن يوجه إلى الضيف يُقال له: أنت مُنكر هذا يقع فيه إيحاش في نفس الضيف، لكن هذا في مواضع أخرى قد لا يكون كذلك، لا يساعد على هذا المعنى الذي استخرجه ابن القيم - رحمه الله -.

في قوله: قُلْ آمَنَّا وكذلك حيث وحد الضمير قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ [آل عمران:84] لاحظ قل هذا خطاب للنبي ﷺ قل واحد، آمنا هذا جمع أليس كذلك؟ قُلْ آمَنَّا ابن جُزي يقول: قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] أُمر النبيّ ﷺ أن يُخبر عن نفسه، وعن أمّته، آمنا يعني هذا التوجيه فيه استعمال صيغة الجمع بعد المفرد قُلْ آمَنَّا هذا ما قال: قولوا آمنا، قل هذا لواحد، ما قال: قل آمنت، واضح؟ فابن جُزي اختصر الجواب المضمن بهذا الكلام القصير قُلْ آمَنَّا يعني أن يُخبر عن نفسه، وعن أمته، قل أنت آمنّا فيخبر عن الجميع.

لكن العلماء ذكروا أوجهً في هذا منها: أنه حين خاطبه، إنما خاطبه بلفظ المفرد، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع قُلْ آمَنَّا وقول من يقول: بأنه خاطبه أولًا بخطاب المفرد، ليدل هذا الكلام على أنه لا مُبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا النبي ﷺ ثم قال: آمنّا، تنبيهًا على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه.

ومن ذلك أيضًا أن الجمع في قوله: آمَنَّا بعد الإفراد في: قُلْ لكون الأمر عامًا، والإفراد لتشريفه - عليه الصلاة، والسلام - والإيذان بأنه أصلٌ في ذلك، أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه - عليه الصلاة، والسلام -.

قُلْ آمَنَّا فيكون جمع للتعظيم، والتفخيم، لكن ما ذكره ابن جُزي أسهل، وأوضح، وأخصر بهذه العبارة الوجيزة: قُلْ آمَنَّا أُمر النبيّ ﷺ أن يُخبر عن نفسه، وعن أمّته بالإيمان، فهذا جواب لهذا السؤال، واضح السؤال؟ هذا جوابه.

وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا تعدى هنا بَعْلِى هذا سبق في توجيه هذا المتشابه اللفظي، وذكر السيوطي في "الإتقان"[3] أن التي في البقرة وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136] أنه خطاب للمسلمين، وهنا وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا خطاب للنبي ﷺ وأن إلى يُنتهى بها كل جهة وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وعلى لا يُنتهى بها إلا من جهةٍ واحدة، وهي العلو، فالقرآن يأتي للمسلمين من كل جهة، يأتي من مُبلغه إياهم، من بلغهم به وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وأما النبي ﷺ فمن جهة العلو، لكن هكذا قال، ولكن هو يريد أن المسلمين وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ما يصل إليهم من القرآن عن طريق النبي ﷺ وعن طريق مُبلغٍ غير النبي ﷺ من يعلمهم، ويقرأهم من الصحابة، ونحو ذلك، فما يصلهم من ذلك فهو قد بلغ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا - والله أعلم -.

على قول الكوفيين بأن حروف الجر تتناوب وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] بمعنى وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا كل ذلك بمعنىً واحد، وأنه لا حاجة لمثل هذه التدقيقات، لكن مثل هذا الذي يذكرونه في التوجيهات البلاغية، إنما هي أمورٌ ظنية هذا أولًا، ثانيًا أنه لا يتوقف عليها فهم المعنى، مع أن كثيرًا منها لا يخلو من إشكال، وإن كان قد يُستملح، لكن يبقى أنها من مُلح العلم إن كانت صحيحة، وليست من صلبه هي ظنية، لا يتوقف عليها فهم المعنى، ظنية لا يُقطع بها، يُقال: يحتمل، وهي ظنية، ولا يتوقف عليها فهم المعنى، بمعنى أنها ليست من صلب المعنى، ولكنها من مُلح العلم إن كانت صحيحة. 

  1. الرسالة التبوكية (ص:69).
  2. الرسالة التبوكية (ص:66).
  3. الإتقان في علوم القرآن (3/394).