خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة لقمان:10-11].
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قال الحسن وقتادة: ليس لها عَمَد مرئية ولا غير مرئية.
يعني بهذا الاعتبار خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، فيكون منصوباً على الحال، يعني: لا عمد لها لا مرئية ولا غير مرئية، ويمكن أن يكون ذلك استئنافاً خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، تَرَوْنَهَا يعني: ترونها كذلك، فلا عمد لها، فهذا معنى، ويمكن أن يكون قوله: تَرَوْنَهَا في محل جر صفة لعمد، خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ يعني: بغير عمد مرئية لكم، يعني لها عمد لكنها لا تُرى، بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا بغير أعمدة مرئية، وهذا قول آخر، والأرجح هو الأول: أنها بغير عمد أصلاً، وهذا أدل في القدرة، ومضى الكلام على هذا في أول سورة الرعد، فالأقرب بغير عمد لا مرئية ولا غير مرئية، بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، والله أعلم.
لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء، باعتبار أن تحت الأرض ماء.
وقوله تعالى: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.
ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي: من كل زوج من النبات كريم، أي: حسن المنظر.
وقال الشعبي: والناس أيضاً من نبات الأرض، فَمَنْ دخل الجنة فهو كريم، ومَنْ دخل النار فهو لئيم.
قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ لا يخص هنا بذوات الأربع، فإن الدابة تطلق بإطلاقات متعددة، وهنا: كل ما دبَّ على الأرض، من ذوات الأربع وغير ذوات الأربع، ولا يقال: إن ذلك يختص بنوع منها، أخص من ذلك أو أعم، ولكن كل ما دب على الأرض.
قال: وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، يعني هنا قال: أي حسن المنظر، الزوج هنا بمعنى الصنف، يعني ليس المراد بالزوج هنا أنه يوجد من كلٍّ من هذا النبات مثلاً ذكر وأنثى، وإنما مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ يعني: من كل صنف كريم، وبعضهم كابن جرير يعبر بقوله مثلاً: حسن النبت، والمعنى واحد، يرجع إلى شيء واحد، حسن النبت، حسن المنظر، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، وقول الشعبي هنا الذي نقله، قال: والناس أيضاً من نبات الأرض، هذا بعضهم يذكره على أنه قول برأسه، يعني: مستقل، القول الآخر: أنه مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ: الناس، وكلام ابن كثير - رحمه الله - جعله داخلاً في العموم، وأن الناس من الأرض، فالله أنبتنا من الأرض وإليها يعيدنا، لكن الوصف هنا بأنه كريم، قال: فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن لم يدخل الجنة فهو لئيم، ويمكن أن يقال باعتبار إدخال الناس، مع أن هذا خلاف المتبادر؛ لأنه ذكر إنزال المطر من السماء وما يؤثّره بإذن الله من خروج النبات، فلا يدخل فيه الإنسان بهذا الاعتبار، وإن كان أصل الإنسان من الأرض، لكنه لا يكون بنزول المطر، ولا علاقة له بنزول المطر من حيث الوجود، أصل وجود الإنسان، لكن على قول الشعبي، يمكن أن يقال: إن ذلك لا يلزم منه - والله تعالى أعلم -، أن يقيد بأن من دخل الجنة فهو كريم ومن لم يدخلها فإنه لئيم، وإنما أصل خلق الإنسان، إذا قلنا: إن النبات الكريم هو حسن المنظر، فالله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4]، قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [سورة الإسراء:70]، وكما هو أيضاً في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [سورة طه:116]، فهذا كله من التكريم للإنسان، جنس الإنسان، والذي يظهر - والله أعلم - أن الإنسان غير داخل في ذلك؛ لأنه ذكر القرينة هنا: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، من كل صنف.