الجمعة 01 / محرّم / 1447 - 27 / يونيو 2025
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَٰنَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة لقمان:12].

اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً، أو عبداً صالحاً من غير نبوة على قولين، الأكثرون على الثاني.

وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عِكرمَة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً.

وعن عبد الله بن الزبير، قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة.

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة.

وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حَرْمَلة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله، فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومِهْجَع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم، كان أسود نوبياً ذا مشافر.

لقمان اختلفوا فيه كما ذكر الحافظ ابن كثير هل كان نبياً أو لا؟ والذي عليه عامة أهل العلم من السلف والخلف أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً أعطاه الله الحكمة، ونقل عن جماعة قليلة من السلف ، أنه كان نبياً، ولا يصح عن بعضهم نقل ذلك عن عكرمة في غير الرواية السابقة، فالرواية السابقة هنا لم يذكر فيها أنه نبي، وجاء ذلك عن السدي والشعبي، والذي عليه السواد الأعظم من أهل العلم أنه لم يكن من أهل العلم، واختلفوا فيه هل هو عربي أو عجمي، ومن ثم فإن المنع من الصرف هل هو للعلمية والعجمة "لقمان"، وإذا قيل: إنه عربي هل ذلك مثلاً للعلمية وأنه مختوم بالألف والنون مثل عثمان، والذي عليه عامة الروايات أنه كان من النوبة، أو من السودان، أو من الحبشة، المقصود أنه من تلك الناحية، والنوبة معروف أنها جنوب مصر وشمال السودان، وكان السودان إلى عهد قريب يعني إلى وقت الاستعمار، أو قبيل الاستعمار، كانت تلك الناحية يقال لها: السودان، يعني لا تختص بدولة السودان الموجودة اليوم، وإنما يقال ذلك للسودان وما جاورها، كل ذلك يقال له: السودان، بإطلاق أوسع مما هو عليه اليوم.

وإذا نظرت إلى الروايات التي تذكر في كتب التفسير فذلك يرجع في عامته إلى ما نقل عن بني إسرائيل؛ ولهذا ترى فيه اختلافاً كثيراً، فمثلاً اسم لقمان مع أن هذا أثر لا أثر له ولا فائدة فيه، يختلفون في نسبه، كما سيأتي، ويختلفون في اسمه هو كما سيأتي، ويختلفون أيضاً في أمور وتفاصيل، بعضهم يقول: عاش ألف سنة، يختلفون في الوقت الذي عاش فيه، بعضهم يجعل لقمان من قرابة أيوب ابن أخيه، فيقولون: عاش ألف سنة، وأنه كان قاضياً في بني إسرائيل، وبعضهم يذكر ما يدل على أنه كان قبل بني إسرائيل كما سيأتي، ويختلفون في تفاصيل مما يدل على أن ذلك مما أخذ عن تلك الكتب المحرفة التي لا يمكن أن يتوصل إلى حقيقة ما جاء في كثير منها، ولا فائدة من الاشتغال في ذلك، فمثل هذه الأشياء التي يذكرونها مثلاً: كان قصيراً أفطس الأنف من النوبة، هذا ليس عندنا ما يثبته، ما عندنا شيء يدل على صحته، - فالله تعالى أعلم -، فهذا لا سبيل إلى الوصول إلى معرفة الحق فيه، كما قال شيخ الإسلام في مقدمته في أصول التفسير، ليس عليه دليل معلوم، وليس من المنقول الذي يمكن أن يعرف الصحيح من زائفه، وإنما كما قال النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج([1])، مما لا يعارض ما عندنا، وإن كان ترك الاشتغال بذلك أولى، والله أعلم.

قال: وروى ابن جرير عن خالد الرَّبَعِيّ قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخْرجْ أطيب مُضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فمكث ما شاء الله ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا.

وقال شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً.

وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أي: الفهم والعلم والتعبير.

الفهم والعلم والتعبير، يعني: العبارة، عبارات حكيمة، عبارات بليغة، عبارات تدل على معانٍ كثيرة، وكما سبق أن الحكمة: هي الإصابة في القول والعمل، فهنا الفهم والعلم والتعبير، يعني الإصابة والقول والعمل، والحكمة تارة تفسر بالعلم أو بالفقه في الدين، أو نحو ذلك، وكل هذا لا منافاة فيه، فالحكمة تنتظم هذا جميعاً؛ ولهذا قال ابن جرير - رحمه الله - هنا: آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قال: أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.

قال: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي: أمرناه أن يشكر الله ، على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه.

يعني يمكن أن تكون "أن" هذه تفسيرية، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، فتكون تفسيراً، ترجمة للحكمة كما قال ابن جرير - رحمه الله -، فإن مقتضى الحكمة أن يعمل بطاعة الله ، أن يشكره على نعمه؛ ولهذا قيل: الإصابة في القول والعمل، أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، فهذا من الحكمة، يكون تفسيراً لها.

ويحتمل أن يكون هناك مقدر، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قلنا له ذلك، قلنا له: اشكر، أَنِ اشْكُرْ، أو قلنا له: لأن اشكر لي، بأن اشكر لي، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ قلنا له، لكن على كلام ابن جرير يكون ذلك تفسيراً للحكمة.

قال: ثم قال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي: إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين؛ لقوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم:44].

وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: غني عن العباد، لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً، فإنه الغني عمن سواه؛ فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه.