الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۝ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۝ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة لقمان:13-15].

يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده وهو: لقمان بن عنقاء بن سدون.

بعضهم يقول: هذا ابن عنقاء بن سدون، وبعضهم يقول: ابن باعوراء بن ناحور بن تارخ، ويزعمون أن تارخ هو والد إبراهيم – آزر -، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [سورة الأنعام:74]، وأن اسم آزر: تارخ، وأن آزر هذا لقب، وبعضهم يزعم أنه عم إبراهيم أعني آزر، وهذا كله لا دليل عليه، فظاهر القرآن أن آزر هو والد إبراهيم، ولا حاجة لمثل هذه الأقوال التي تعارض ظاهر القرآن، ولكن المقصود هنا الاختلاف في اسمه مما يدل على أن ذلك مما دخله التحريف، ما أخذ عن بني إسرائيل، وأهل التاريخ ينقلون مثل هذه الأشياء في كتبهم ومُعوَّلهم في ذلك على ما ينقلونه من أخبار بني إسرائيل، وقيل غير هذا في اسمه، وكذلك اسم الولد، هنا يقول: اسم الابن ثاران، قال: في قول حكاه السهيلي، وهذا قال به ابن جرير وابن قتيبة، لكن ليس عندنا دليل على أن الولد اسمه ثاران، ولا فائدة من معرفة اسم الولد، وغيرهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: اسم الولد مشكم، وبعضهم يقول: اسم الولد أنعم، وبعضهم يقول: اسم الولد ماتان، وهلم جراً، هذا في الاسم، فالحمد لله الذي أنزل علينا هذا القرآن وهدانا للإسلام وبين لنا ما نحتاج إليه مما تتوقف عليه النجاة، والهداية، وإلا بقينا في عماية وحيرة مما نجد من التناقضات في أدنى الأشياء في كتب هؤلاء التي حرفوها، وعبثوا بها وضيعوها، والله المستعان.

قال: وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وأنه آتاه الحكمة، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف.

يعني بمعنى أن النصيحة والدعوة إذا استكملت أوصافاً أربعة فإنها تكون تامة، ما يبقى إلا توفيق الله ؛ ولهذا كانت دعوة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أكمل ما تكون، نوح مع ولده، النبي ﷺ مع عمه، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم أكمل الناس علماً، ومعرفة بالله ، وما شرعه، والطريق الموصل إليه، وما يصل إليه السالكون، الدار الآخرة، وكذلك أيضاً لا ينقصهم البيان، فكلامهم في غاية البيان، أحياناً قد يتخلف المطلوب لنقص العلم، وقد يتخلف؛ لأنه يقدم في قالب غير مناسب، يعني في كلام لا يُفهم، البيان قاصر، والأمر الثالث: وهو الإشفاق والحرص والنصح، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]، فهم أكثر الناس شفقة وحرصاً، فإذا كان الإنسان مشفقاً فإنه حريص على هداية الناس، فهذا من تمام دعوته وكمال بيانه ودعوته ونصحه ورسالته، والأمر الآخر هو الإخلاص، وهو الإكسير الذي تصل به الكلمات إلى القلوب، والناس تميز بين الصادق والكاذب، فالمخلص يصل كلامه إلى قلوب الناس، فإذا وجدت هذه الأمور الأربعة كانت الدعوة تامة تصل إلى القلوب ما لم يحل دون ذلك عدم توفيق، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - استكملوا هذه الأمور جميعاً، وينبغي لمن كان خطيباً أو معلماً للناس، واعظاً أن يحرص على استيفاء هذه الأمور الأربعة، ومن ثَمّ تصل كلماته، وكثير من الناس يفوته هذا أو هذا، فمقل أو مكثر، فتجد الخطيب قد يقول كلاماً واضحاً فصيحاً صحيحاً، ولكنه لا يصل إلى القلوب، الناس بين نعسان ومنشغل بأمر آخر سرح فيه ذهنه، فيخرجون كما دخلوا، ولا يتأثرون، - والله المستعان -، فهذه أربعة أمور في البيان والنصح، فهذا ابن كثير - رحمه الله - يقول: هذا يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه، ولذلك نصائح العلماء لأولادهم شعراً ونثراً تجد فيها مِن صدق النصح والحرص والشفقة.

قال: وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف؛ ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم.

بعضهم يفهم من هذا أنه كان مشركاً، وهذا ليس بلازم؛ لأنه انظر ماذا قال بعده في وصايا، مثلاً قال له: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة لقمان:17]، لو كان مشركاً هل سيقول له: أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر؟ حينما ذكر له هذه الأمور جميعاً، يعني ما توقف ذلك على القبول والاستجابة للتوحيد، فلا يلزم أنه كان مشركاً، هو يحذره من الشرك؛ لأنه أعظم ما عُصي الله - تبارك وتعالى - به، والوصايا التي تذكر بعده لا قيمة لها إذا كان الإنسان قد تورط في وحل الشرك، كما يقال: إن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، وإن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، فإذا استقامت عقيدة الإنسان رُجي بعد ذلك أن يستقيم السلوك، تصلح الحال والأعمال والأخلاق، وأما إذا فسد الاعتقاد فلا طب فيه، - نسأل الله العافية -، ماذا ترجو منه؟، أحيانا الإنسان لما يجلس يتأمل هذا المعنى ويتخيل أنه يعيش في بلد لا يعرفون الله يشعر أنه عايش في مسبعة، وحوش ما يعرفون الله، الذي لا يعرف الله ولا يخافه توقع منه كل شيء، يقع على محارمه، ويقتل من أجل أن يحصل شهوته أو حفنة من المال، أو بأدنى خصومة، تعيش في مسبعة، ناس لا يعرفون الله، المجتمعات البعيدة عن الله ، بلاد الكفار، من يستطيع أن يقيم فيها، ناس لا يعرفونه ولا يخافونه، كيف تستطيع أن تتعامل معهم وأن تعيش بين أظهرهم؟!.

قال: ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أي: هو أعظم الظلم.

قوله: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ بعضهم يقول: هذا من الموصول لفظاً المفصول معنى، يعني ظاهر الكلام موصول على أنه من كلام لقمان - رحمه الله -، وبعضهم يقول: وإن كان ظاهره كذلك – أنه موصول لفظاً – لكنه مفصول معنى، فهنا: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، نقطة، ثم ابتدأ بكلام لله الله يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، يعلل ما قاله لقمان، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وهذا الكلام لأول وهلة قد يكون بعيداً؛ لأن ظاهر السياق أنه من كلام لقمان - رحمه الله -، ولكن القائل بذلك يستدل، أو يمكن أن يستدل بما جاء في سبب النزول، الحديث في الصحيحين أنه لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، وأن ذلك شق عليهم، فأنزل الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، فدل على أنها مستقلة، إلا أن يقال: إنها جاءت من كلام لقمان هنا في هذا السياق، وإنها نزلت - هذه الجملة - حينما شق عليهم الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ، فنزل ذلك إِنَّ الشِّرْكَ، يعني يكون مما تكرر نزوله، وما تكرر نزوله حاصل وواقع، فهذا يحتمل أن يكون من كلام الله ، يعلل فيه ما قاله لقمان لولده في نهيه عن الشرك، فيكون من الموصول لفظاً، المفصول معنى، يعني تكون الآية هذه بعضها من كلام لقمان فيما حكاه الله عنه، وبعضها مما قاله الله ، وليس من قيل لقمان.

قال: روى البخاري عن عبد الله قال: لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: أينا لم يَلْبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله ﷺ: إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[1]، رواه مسلم.

هذه الرواية لا يحتج بها على أنه من كلام الله ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، لكن الرواية الأخرى هل يقال: إن ذلك ربما يكون من تصرف الرواة - بعض الرواة -؟ هذا بعيد؛ لأن الرواية بالمعنى عند من جوزها اشترطوا لها شروطاً، منها أن يكون عالماً بما يحيل المعاني، ففرق بين أن يقول: ألم تسمع قول لقمان لولده؟، وبين أن يقول: فأنزل الله، يكون سبب نزول، فهذا مغاير تماماً لهذه الرواية، فلا يقال: إن هذا من قبيل تصرف بعض الرواة، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة آلم غلبت الروم، برقم (4498)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، برقم (124).