الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال: ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23]، وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن.

وقال هاهنا: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، قال مجاهد: مشقة وَهْن الولد.

وقال قتادة: جهداً على جهد.

وقال عطاء الخرساني: ضعفاً على ضعف.

ضعفاً على ضعف: يعني في مراحل الحمل، أطوار الحمل، فإن المرأة لا تزداد به إلا وهناً وضعفاً.

وبعضهم يقول: وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ: المرأة ضعيفة، فإذا جاء الحمل فهذا وهن آخر، وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، فهو وهن على وهنها، لكن المشهور أن المقصود بذلك وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ أي: الحمل، حينما يتعاظم وينمو الجنين في بطنها، فإن ذلك يوهنها أكثر.

وقوله: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ هذا اعتراض في ثنايا كلام لقمان ووصيته لولده من كلام الله ، لما ذكر وصية لقمان لولده: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، قال الله : وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إلى آخره، فيكون ذلك من كلام الله - تبارك وتعالى - في تمام الآيتين، إلى قوله: فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وهذا ظاهرٌ أن الله هو الذي يقول ذلك، وأن ذلك ليس من كلام لقمان، ولا أعلم أحداً يقول: إن ذلك من كلام لقمان؛ فإن ظاهر القرآن يردّه، ولكن من أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - من يقول: إن ذلك وإن كان من كلام الله : وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ابن جرير يقول: فإن ذلك أيضاً هو من مضامين كلام لقمان، يعني: ما هو لقمان قال: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، ولكن في مضامين؛ لأن الله جاء بها في ثنايا، يعني: أن لقمان يوصي ولده بالتوحيد وترك الإشراك بالله ، والإحسان إلى الوالدين، باعتبار أن الله وصى بذلك، وكيف يتصرف وكيف يصنع في حالاته معهم، فمضمون هذا مما وصى به لقمان ولده، هذا يقوله ابن جرير، أي أن هذا من كلام الله عند الجميع، وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، لكن ابن جرير - رحمه الله - يقول: لما ذكره في مضامين الوصية دل على أن مضمون ذلك قاله لقمان لولده، والله أعلم.

قال: وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ الآية [سورة البقرة:233].

ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15].

هذا الذي ذكره ابن عباس وغيره من هذا اللون من الاستنباط هو الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإشارة، وهي إشارة اللفظ لِمَا لم يكن القصدُ له قد عُلم، يعني: أنه إذا نظرت إلى الآيتين، ما سيقت واحدة منهما من أجل تقرير أقل مدة الحمل، أنه وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، فهو لا يتكلم عن أقل مدة الحمل وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، لكن بعملية حسابية ضم فيها هذا إلى هذا، فإذا طرحت العامين، يعني أربعة وعشرين شهراً من الثلاثين، فإنه يبقى ستة للحمل، فالفصال في عامين، هذه أربعة وعشرون شهراً، فيبقى أقل مدة للحمل ستة أشهر، فمن ولدت لستة أشهر حكم بأن ذلك الحمل لأبيه، ولا ترجم بهذا، لا يقال: إنها زنت، وهذا استنباط لدلالة الإشارة، وهي من أنواع دلالة المنطوق، وليست من المفهوم، وليس المقصود التفسير بالإشارة عند الصوفية، ذاك لون آخر، هذا نوع من الدلالة صحيح لا إشكال فيه، مثل ما في قوله - تبارك وتعالى -: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187]، فيستنبط منه بدلالة الإشارة صحة صيام من أصبح وهو جنب؛ لأنه إذا جاز له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى آخر جزء من الليل، فيكون وقت الاغتسال بعد طلوع الفجر، فهذه تسمى دلالة الإشارة، لكن الآية لم تُسق لتقرير هذا المعنى: صحة جواز الاغتسال من الجنابة بعد الفجر، فهي إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد عُلم، يعني الشارع ما قصد تقرير هذا المعنى في سياق الآية ابتداء، ما سيقت لهذا ابتداء، لكنه لون من الاستنباط، فهذه الأنواع الستة في الدلالة التي منها الإشارة أو آخرها الإشارة كلها تسلط على النص، فتأتي ألوان المعاني والأحكام والاستنباطات التي يستخرجها العلماء.

قال: وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهاراً، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا؛ ولهذا قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ  أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.

يعني ذلك حينما يُستحضر فإنه يدفع المنة ورؤية العمل، رؤية الإحسان، رؤية البر، فهذا قليل من كثير مما يكافئ به الولد والده، فهو حينما يفعل هذا ويحسن إليهما - والإحسان هنا مطلق يشمل جميع أنواع الإحسان - فإن ذلك يكون مستحضراً معه الإحسان المتقدم، مع الفارق، فرق بين من يحسن إلى والديه ولربما يعزي نفسه إذا كان الإحسان مستثقلاً حينما تكثر حاجات الوالد، ويحتاج لربما أن يقوم منه بكل شيء، فإنه لربما يعزي نفسه بأن ذلك إلى وقت قد لا يطول، ثم بعد ذلك يموت هذا الوالد أو الوالدة، أما وهو صغير فإنهم يؤملون فيه التمام والكمال وأن يطول به العمل، ويستملحون منه كل تصرف، كل قول وفعل، فرق بين هذا وهذا، شتان، فحتى لا يرى نفسه في ذلك ويستكثر عمله أو يكون بذلك لربما ممتناً أو يستشعر أنه قد جاء ببر وإحسان يتفضل فيه على أبيه أو أمه، قال له: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، حملته أمه بهذه المثابة.