الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
يَٰبُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِى ٱلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يقول الله - -: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ۝ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ۝ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۝ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [سورة لقمان:16-19].

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم؛ ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل، وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله: إِنَّهَا ضمير الشأن والقصة، وجوز على هذا رفع مِثْقَالَ والأول أولى.

وقوله : يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي: أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الآية، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صَمَّاء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السماوات أو الأرض فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي: لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقت ولطفت وتضاءلت خَبِيرٌ بدبيب النمل في الليل البهيم.

فقوله: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لقمان - رحمه الله - يوصي ولده، وقد مضى الكلام على النصيحة وما تقتضيه من أجل أن يحصل المطلوب، وأن ذلك يتطلب صدقاً وإخلاصاً ونصحاً وحرصاً مع البيان والمعرفة والعلم، وأنه إذا اجتمعت هذه الأمور فذلك هو الكمال المطلوب في الموعظة، وأنه لا أنصح من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لأقوامهم، كما أن نصيحة الوالد لولده تكون أيضاً بمنزلة من ذلك، فهو يرشده إلى مراقبة الله - تبارك وتعالى -، وذكر مثقال الحبة من الخردل؛ لأن ذلك يضرب به المثل في الصغر، هو شيء صغير، ومع ذلك فإن الله - تبارك وتعالى - يطلع عليه ويجازي صاحبه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وقوله: إِنَّهَا قال: المظلمة أو الخطيئة، ثم ذكر القول الآخر: إن الضمير هو ضمير الشأن والقصة، وبعضهم يقول: إِنَّهَا أي: الإساءة، الخصلة يعني من الإساءة والإحسان، والواقع أن هذا يرجع إلى الأول، فالله - تبارك وتعالى - يأتي بها، فهو اللطيف الخبير.

واللطيف: هو الذي يعلم دقائق الأشياء، هذا من المعاني الداخلة تحته، يعلم دقائق الأشياء، الخبير: هو الذي يعلم الخفايا والبواطن، الأمور غير الظاهرة يعلمها الله - تبارك وتعالى -، فهو يعلم ما دق وخفي، لا يفوته شيء - تبارك وتعالى -، ولا تخفى عليه خافية، وإذا كان الأمر كذلك فدقائق الأشياء يحصيها، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7-8]، والذرة تذكر في مثل هذا، والعرب تعبر بها عن الشيء الصغير، أقل الأشياء، أصغر الأشياء، فإذا كان مثل هذا يؤتى به ويحاسب عليه فكيف بما فوقه مما يقارفه الإنسان من الأمور الكبار والعظائم، وقد مضى في الأعمال القلبية ما قاله أبو العباس الخطاب، أو ما جاء عنه من أنه أخذ حبة خردل ووضع إزاءها بالكفة الأخرى عشرين ذرة، فوزنها فلم تزن شيئاً إزاء حبة الخردل، وما جاء عن معاوية بن قرة أنه لما أكل طعاماً في ليلة ثم ترك بعضه فلما أصبح وجده قد اسود من الذر، فلما أخذه وزنه بالذر، ثم أزاح عنه الذر فوزنه فلم يتغير، مع كثرة الذر، والله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، فإذا كانت هذه الذرة كما يقول أهل العلم: لا تؤثر في موازين أهل الدنيا، يعني ليس عندهم ميزان تؤثر فيه وتحركه، ولكنها عند الله - تبارك وتعالى - ذات أثر ويحاسب عليها، فإذا كان الحساب على مثاقيل الذر فلابد إذاً من أن يراعي الإنسان ما يصدر منه من الأقوال والأفعال، ولا يستصغر شيئاً، والله المستعان.