الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا۟ مَا عَٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبْدِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ۝ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الأحزاب:23-24].

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله -: لمَّا ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق وصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، قال بعضهم: أجله، وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إلى الأول.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.

فقوله - تبارك وتعالى -: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق، هذا تفسير لقضاء النحب، يقول: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال بعضهم: أجله، وقال البخاري: عهده، وهو يرجع إلى الأول، فقضى أجله أو قضى نحبه بمعنى، يعني قال: أجله، الثاني: عهده، كيف يرجع إلى الأول، هل الأجل هو العهد؟

النحب: الأجل، والنحب يعني: العهد، لما كان محتوماً لابد من وقوعه صار كالأجل بهذا الاعتبار؛ ولهذا فإن بعضهم يقول: إن أصل النحب هو النذر، ثم صار يطلق على الموت باعتبار أن الموت أمر واقع  لابد منه كما أن النذر أمر لابد من الوفاء به، يعني هذا الآن الجامع المشترك، عبارة ابن كثير حينما يقول هذا الكلام: إنه يرجع إلى الأول، كيف يرجع إلى الأول؟ بهذا الاعتبار أن كل واحد منهما أمر لازم، ولهذا صار النحب يطلق على معانٍ متعددة، منها النذر ومنها العهد، ومنها الموت، كما يطلق على معانٍ أخرى مثل السير الحثيث، فهنا يقول: إنهم استمروا على العهد والميثاق، ربما يكون أدق من هذا - استمروا على العهد والميثاق - عبارة من قال من السلف: مات على الصدق والوفاء، فالذي قال: مات على الصدق والوفاء جمع بين معنيين: الموت والوفاء بالعهد، ذكر الموت وذكر الوفاء بالعهد، وهذا قال به جماعة من السلف من التابعين فمن بعدهم، بل هو منقول عن ابن عباس أيضاً بالإضافة إلى الحسن وقتادة ويزيد بن رومان، مات على الصدق والوفاء، وحديث أنس في قصة أنس بن النضر في يوم أحد مُشعر بل إن ظاهره يدل على أنه يرى أن ذلك فيمن صدق على عهده الذي عاهد الله - تبارك وتعالى - به، وذلك في قوم لم يشهدوا بدراً منهم أنس بن النضر، فقال: لئن أشهدني الله لقاء المشركين ليرين الله ما أصنع، أو كما قال ، فكان ما كان، لكنه لا يقصد أن ذلك ينحصر فيه، أنها في قوم كذا وكذا، والواقع أن هذا يرجع إلى ما قبله أنه مات على الصدق والوفاء، ولكن قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ يعني: إذا فسر النحب هنا بالموت معناه أن منهم من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر يعني لم يمت، وهذا قال به بعض أهل العلم، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ َمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، وبعض أهل العلم يقول: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ يعني: وفى بما عاهد عليه وكمَّل هذا العهد، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ يعني: أنه وفى ببعضٍ ولم يزل يوفي بعهده وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا فيكون الأمر المشترك بين الفريقين على الأول: أن منهم من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من لا يزال على العهد لكنه لم يزل حياً، وعلى الثاني الذي ذكرته آخراً وهو أن من هؤلاء من وفى بغض النظر عن كونه مات، وفى بما عاهد الله عليه وصدق، ومنهم من لا يزال يوفي ذلك، حقق بعضاً وينتظر ليحقق بقية ما عاهد الله عليه، وهذا قاله بعض أهل العلم، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، ما الذي جعل هؤلاء يقولون بذلك، الأخير يعني؟ النبي ﷺ قال في حق طلحة بن عبيد الله : إنه ممن قضى نحبه، قال ذلك وهو حي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: طلحة ممن قضى نحبه[1]، والحديث مخرج عند الترمذي وابن ماجه وإسناده حسن، قاله وهو في حياته، وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، فإذا كان ممن قضى نحبه وهو حي وفى ما عاهد الله عليه، صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فوفوا بذلك، ومنهم من صدق ولم يزل يوفي، فالجانب المشترك هو الصدق مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فمنهم من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من وفى ولم يزل حياً، ومنهم من لم يزل يوفي وهو على الطريق، فكل ذلك يرجع إلى معنى هو ما ذكر في أول الآية صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.

فالتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، هنا في هذا الموضع قد يكون فيه بعد، يشهد له النبي ﷺ أنه قضى نحبه وهو حي، فظاهره أنه فعل ما يجب، أو فعل ما تحصل له به السعادة والنجاة، كقول الله  لأهل بدر: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[2]، وقول النبي ﷺ في عثمان : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[3]، كما تقول: فلان أدى ما عليه، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، فهل يُربط ذلك بالضرورة بالموت؟ قد لا يلزم عند التأمل، وإنك إذا نظرت فيها لأول وهلة في الأقوال قد تقول: منهم من مات على الصدق والوفاء ومنهم من ينتظر وهو على الطريق، فهذا له وجه قريب، لكن إذا نظرت إلى مثل الحديث فقد يكون هذا يشهد للقول الآخر أن ذلك لا يربط بالموت، ولكن من هؤلاء من مات على الصدق والوفاء، ومنهم من وفى ولم يزل حياً، ومنهم من لم يزل يوفي وهو على طريقهم، - والله أعلم -، والمقصود أن هؤلاء جميعاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يحصل منهم تبديل ولا تغيير، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، وذلك أن العوارض التي تعرض للإنسان في السراء والضراء داعية إلى التبديل والتغيير، وأصحاب النبي ﷺ تقلبوا بين السراء والضراء، وفتح الله عليهم الفتوح، وصار كثير منهم بحال من النعمة، وصار كثير منهم أميراً على مصر من الأمصار، ولم يحصل منهم تغيير، لم تغيرهم الدنيا، ولا الشدائد والجوع، كان الواحد منهم لربما على تمرة سائر اليوم في الغزو، بخلاف الكثيرين ممن جاء بعدهم، فيتغير إما بالشدة وإما بالنعمة حينما يفتح الله عليه أيًّا كانت هذه الفتوح فيحصل منه تبديل وتغيير، فيعرف ما كان يُنكِر، ويُنكِر بعض ما كان يعرف، فيكون مفتوناً، والله المستعان.

قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه.

روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصُّحُف فَقَدْتُ آيةً من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري - الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين - قال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[4]، تفرد به البخاري دون مسلم، وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي - في التفسير من سننيهما - وقال الترمذي: "حسن صحيح".

هذا الكلام ما معناه: لم أجدها عند أحد غيره يعني مكتوبة، وهذا لا يعارض التواتر، كون القرآن نقل بالتواتر، لم أجدها عند أحد غيره يعني مكتوبة، كما ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - وغيره كأبي شامة أنهم كانوا يشترطون في الجمع الحفظ والكتابة، أن يكون مما كتب على عهد رسول الله ﷺ، بعضهم فسر الشاهديْن، من شهد عليه شاهدان فسره بذلك: الحفظ والكتابة، يشهد له الحفظ والكتابة، وبعضهم فسر الشاهديْن برجلين يشهدان على أن ذلك مما كتب على عهد رسول الله ﷺ، يعني بين يديه، فالشاهد أنه ما شهد شاهدان، فهنا لم يجدوا هذه الآية عند أحد يعني: مكتوبة، لكنهم كانوا يحفظونها، وأبيّ كيف فقدها؟ كان يحفظها، فجاء بها خزيمة الذي جعل النبي ﷺ شهادته بشهادة رجلين، جاء بها.

وروى البخاري أيضاً عن أنس بن مالك قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر  : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[5]، انفرد به البخاري، ولكن له شواهد من طرق أخر.

نرى هذه الآية نزلت في أنس ، هذا الذي أشرت إليه آنفاً، نزلت في أنس، وهذا الأسلوب محمول على أنه من قبيل التفسير، وليس من أسباب النزول؛ لأنه ليس بصريح، فيكون هذا مما يدخل في معنى الآية، نزلت في أنس، فيكون ذلك كأنه من قبيل التفسير بالمثال، وهذا لا ينافي المعنى الذي ذُكر سابقاً، فمثل أنس بن النضر مِن هؤلاء الذين ماتوا على الصدق والوفاء أو الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه وهو من النوع الأول: الذين ماتوا على الصدق والوفاء، قضى نحبه.

 قال: روى الإمام أحمد عن أنس قال: عمِّي أنس بن النضر - سُميتُ به - لم يشهد مع رسول الله ﷺ يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غُيِّبْتُ عنه، لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله ﷺ لَيَرَيَن الله ما أصنع، فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله ﷺ يوم أحد، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو، أين واهاً لريح الجنة أجده دون أُحد، قال: فقاتلهم حتى قُتل قال: فَوُجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته - عمتي الرُّبَيِّع ابنة النضر -: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية: من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه [6]، ورواه مسلم والترمذي والنسائي.

كانوا يرون أنها نزلت فيه، هذا ممكن أن يحمل على التفسير كما في الحديث - الرواية السابقة -، لكن قوله هنا: فنزلت هذه الآية: من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فالروايات الواردة في سبب النزول: لمّا تحدثتُ عن مقدمة شيخ الإسلام في الصريح وغير الصريح، وتتبع الروايات أمر مهم في هذا الباب؛ لأنك تجد في بعضها ما هو صريح، وتجد في بعضها ما هو غير صريح، وتجد أحياناً في الرواية نفسها في أولها غير صريح وفي آخرها صريح، ولربما تجد ذلك جميعاً في آخرها مثل الرواية الثانية، "فكانوا يرون أنها نزلت فيه" هذا غير صريح، وقبله: "فنزلت هذه الآية" هذا صريح، في نفس الرواية في آخرها، وهذا يدل على أن ما ذكر مراراً من قولهم: نزلت في كذا يحتمل أن يكون سبب نزول.

قال: وروى ابن جرير عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي سفيان - ا - فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: طلحة ممن قضى نحبه[7].

ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال: عهده، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال: يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء.

مجاهد من أعلم التابعين بالتفسير وعبارته دقيقة، وكلام ابن كثير يدل على دقة الحافظ ابن كثير، وأنه ينزل أقوال السلف على المعاني التي أرادوها، قال: ولهذا قال مجاهد، يعني الآن هو يوجه كلام مجاهد، مجاهد لم يقيده بالموت، ولم يفسره به، قال: قَضَى نَحْبَهُ عهده، والنحب كما سبق أن أصله يقال: النذر، والنذر من العهد، قَضَى نَحْبَهُ قال: عهده، باعتبار أن طلحة  حينما قال فيه النبي ﷺ ذلك، قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني: أنه لم يوف بعد، ينتظر الوفاء.

قال: وقال الحسن: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ يعني: موته على الصدق والوفاء، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت على مثل ذلك، ومنهم مَنْ لم يبدل تبديلاً، وكذا قال قتادة، وابن زيد، وقال بعضهم: نَحْبَهُ نذره.

هنا قوله: ومنهم مَنْ لم يبدل تبديلاً، لا يقصد هنا القسمة أن بعضهم مات على الصدق والوفاء، وبعضهم ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم طائفة ثالثة لم يبدلوا تبديلاً، لكن كل هؤلاء لم يبدلوا تبديلاً كما قال الله في وصفهم آخراً: من المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، فهذا وصف للجميع، وإلا فالتبديل مذموم، وحديث الذود عن الحوض معروف فيقول النبي ﷺ: أصيحابي أصيحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك[8]، فهذا تبديل، فهنا ماذا يعني في قوله: ومنهم من لم يبدل تبديلاً؟ أنها تكون فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ومنهم من لم يبدل تبديلاً، فممكن أن تكون "من" بيانية، إذا رجع ذلك إلى المذكورين تكون بيانية، إن منهم يعني: من صفات هؤلاء أنهم لم يبدلوا تبديلاً، قال بعضهم: نَحْبَهُ يعني: نذره، وهذا فسره بأصل المعنى، ولا يلزم أن يكون هناك نذر، وحينما بايعوا النبي ﷺ على نصره وأن يدفعوا عنه ما يدفعون عن أنفسهم وأسرهم وما أشبه ذلك مما تعرفون في بيعتهم لرسول الله ﷺ، فهؤلاء أثنى الله عليهم بالوفاء والصدق والبقاء على هذا العهد من غير تبديل.

قال وقوله تعالى: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا أي: وما غيَّروا عهدهم وبدَّلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا [سورة الأحزاب:13]، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ [سورة الأحزاب:15].

هذا العهد الذي لم يبدلوه، سواء كان عهداً كلياً أو عهداً جزئياً، فهنا مَن عاهد أن لا يفر مثلاً، ومن الناس من يعاهد ربه على أن ينفق، إن أعطاه الله مالاً أنفقه، وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ [سورة التوبة:75] فقد يعاهد الإنسان ربه على الإنفاق، ومنهم من يحصل منه نذر أنه إن حصل له كذا فإنه يكون كذا وكذا، إذا نجاه الله من كذا فإنه سيكون في حال من العبادة أو صلة بالله يصفها ويحددها، فكل ذلك مما يدخل في العهد مع الله، ما يجب الوفاء به سواء كان من قبيل النذر أو لم يكن، تقول: عهد عليّ أن أفعل كذا، مثلاً، أو أعاهد الله أن أتوب من هذا الذنب، ثم بعد ذلك ينكث ويرجع في هذا العهد فلا يفي فيه، فالإنسان يخاف، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا، فيثبت على عهده مع ربه، ويستقيم على ذلك من غير تبديل، وذلك أدق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في القصة المعروفة لما كان في حال من العبادة يقوم الليل ويصوم النهار، ويقرأ القرآن كل ليلة، الشاهد أنه لما ترك النبيَّ ﷺ على حال وهي أن يقرأ القرآن كل سبع ليالٍ وأن يصوم صيام داود ، فلما تقدمت به السن، وضعف كان يقرأ ورده بالنهار، يستعين بذلك على قراءته بالليل، فضعف وشق عليه ولكنه كره أن يترك شيئاً فارق عليه النبي ﷺ وتمنى لو أنه أخذ برخصة رسول الله ، حتى في حال الضعف والشيخوخة، مع أن هذا لم يكن من قبيل العهد، ولكنه فارق النبي ﷺ على هذا فكره أن يغير، فكيف بالعهد؟!، والأمثلة على هذا كثيرة، بل بعضهم كره أن يترك عادته من العبادة ولم يفارق على ذلك النبي ﷺ أصلاً، في زمن التابعين الحسن بن صالح مع أخيه مع أمه كانوا يقتسمون الليل أثلاثاً فلما ماتت الأم صار يقتسمه مع أخيه، كرهوا أن يَخلو شيء من الليل فتتغير العادة فيه في دارهم، فلما مات أخوه صار يصلي الليل كله، بصرف النظر عن أن هذا مشروع أو غير مشروع، نحن ما نتحدث عن هذا، نتحدث عن جزئية، وهي أن هؤلاء كانوا يلاحظون معنى، فكيف بالعهد؟

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول اللهﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3202)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، فضل طلحة بن عبيد الله ، برقم (127)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7363).
  2. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن، برقم (2915)، ولفظه: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، وعلقه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، (5/2264)، والحاكم في المستدرك، برقم (6966)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (9371).
  3. رواه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب عثمان بن عفان ، برقم (3701)، وأحمد في المسند، برقم (20630)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (6064).
  4. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4506)، وأحمد في مسنده، برقم (21640).
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4505).
  6. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1903)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3200)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (8291).
  7. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3202)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، فضل طلحة بن عبيد الله ، برقم (127)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7363).
  8. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب في الحوض، برقم (6211)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا ﷺ وصفاته، برقم (2304) واللفظ له.