الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال: وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي: إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31]، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [سورة آل عمران:179]، ولهذا قال تعالى هاهنا: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ: وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان، والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان، ولما كانت رحمته ورأفته - تبارك وتعالى - بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.

قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه يعني المنافقين ، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق، هذا جواب لسؤال مقدر وهو: أن المنافقين لا يدخلون الجنة؛ لأن المنافق كافر في الباطن، فكيف قال الله هنا: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء، فعلقه بالمشيئة، مع أن المنافقين يستحقون الدخول في النار، وأن الله جعلهم في الدرك الأسفل منها وأن الله حرم الجنة على الكافرين، فما وجه التعليق بالمشيئة؟، هذا الجواب عنه، كلام ابن كثير هو جواب عن هذا السؤال، يكون هنا إذاً: إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع، فيكون المعنى وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أي: لا يوفقهم للتوبة، فتحصل لهم الوفاة على هذه الحال من النفاق، وإن شاء وفقهم للتوبة وقبِلها منهم، فهذا الجواب على هذا السؤال، وجه دخول الشرط هنا إن شاء، مع أنهم لا يدخلون الجنة، مثل قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ [سورة آل عمران:128]، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني يوفّقَهم للتوبة فيتوبوا فيقبلَ ذلك منهم، وفي قصة المنافقين في غزوة تبوك لما ذكر الله حالهم واستهزاءهم وسخريتهم، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُُونَ ۝ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طائفة [سورة التوبة:65-66]، بعضهم يقول: إن بعض هؤلاء الذين نزلت فيهم الآيات لم يكن منافقاً، إنما كان معهم ولربما تبسم أو ضحك، ويذكرون أن بعضهم قد تاب من نفاقه، ذكروا هذا في مخشي بن حُميِّر وقال: قعد بي اسمي واسم أبي يا رسول الله[1]، وأنه تاب ويكون ذلك ممن أراد الله بقوله: إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [سورة التوبة:66]، فلا يشكل هذا.

  1. انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/524).