وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [سورة الأحزاب:25].
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، فسلط عليهم هواءً فرّق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهَوَى.
يعني جمعهم الهوى وهم أشتات، الأحزاب هؤلاء: يهود ومالأهم المنافقون وأشتات من العرب وأوزاع من الوثنيين، لم يجمعهم إلا الهوى، يقول: ففرقهم الله بعقوبة تناسب الحال والجناية والجنيّة التي اجتمعوا عليها، أو جمْعهم وهو اتباع الهوى، ومن العقوبات ما تكون مناسبة للأعمال، قطع يد السارق؛ لأن جنايته بيده، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - على هذا المَهْيع أن هؤلاء جمعهم الهوى ففرقهم الله بالهوى، بصرف النظر عن كون هذا الملحظ يعني نجزم به أو لا، لكن هو يشير إلى هذه الجزئية، يعني في المثال المعين لا يكون شأنك المثال إنما أصل المعنى، تنتفع وتستفيد، طالب العلم يستفيد من الملحظ الذي يراعيه العالم، هذا الذي تستفيد منه، أو من الأصل الذي يذكره والقاعدة، أما الصورة المعينة والمثال المعين الذي يتحدث عنه فقد توافق وقد لا توافق، قد تقتنع فيه وقد لا تقتنع فيه أنه يدخل فيه هذا أو لا يدخل، لكن في الأصل هذا الكلام هو ملحظ حسن، وكثير من الناس يغفل عن هذا ويشتغل بالمثال، فتضيع عليه الفائدة.
قال: وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم، لم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدّق هَمَّه بفعله فهو في الحقيقة كفاعله.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده؛ ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده[1]، أخرجاه من حديث أبي هريرة .
في قوله - تبارك وتعالى -: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، بِغَيْظِهِمْ، الغيظ: هو يقال للحنق والغضب، فالحنق والغضب هو الغيظ، فيحصل بالنصر التشفي كما قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة:14]، هذه أربعة أشياء منها التشفي؛ لأن شفاء النفس قهر عدوها، ولهذا في سورة البقرة في قوله: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] قيده بهذا وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، فإن هلاك العدو في حال كون عدوه يشاهده أبلغ في التشفي، يعني قد يبلغه الخبر أن عدوه هلك، لكن هل هذا كهلاكه وهو يشاهده؟ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، هذا أبلغ في التشفي، وأبلغ من ذلك أن يكون هذا الهلاك على يده، وهذه أعلى الصور، ولهذا قال: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة:14]، فالعذاب يقع بالقتل والجرح والأسر، والخزي بما يقع للنفوس من الانكسار والذل والمهانة، ولكم النصر، والتشفي، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ فالقلوب تحمل من الحنق والغيظ على أعداء الله الشيء الكثير، فهذا أمر لابد منه، وهو موجود لدى الكفار ولدى المسلمين، ولا يمكن أن ينخلع الإنسان من هذا حتى ينخلع من إنسانيته، فهنا الله - تبارك وتعالى - قال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ يعني: بحنقهم وغضبهم، ما حصل لهم التشفي جاءوا واجتمعوا وأنفقوا الأموال وبذلوا ورابطوا شهراً حول المدينة، وما حصل لهم مطلوب، ما حصل لهم مقصد، جاءوا للاستئصال، ما جاءوا مثل المجيء الأول في بدر ولا المجيء الثاني في أحد، تلك كانت جولات تحقق أهدافاً معينة محددة، ولم يكن الهدف منها الاستئصال، هذه المرة الهدف الاستئصال، فلم يحصل لهم لا هذا ولا هذا، يعني لم يحصل لهم انتصار ولو محدوداً، ولم يحصل لهم استئصال أهل الإيمان، لم يحصل مطلوبهم، فرجعوا بحنقهم، إنسان جاء يقاتل، جاء مشحون النفس، ثم بعد ذلك لما لقي عدوه لم يتمكن من مواجهته لسبب أو لآخر، فرجع بحنقه، فهنا لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ما المقصود بالخير؟ الخير بالنسبة إليهم وإلا فهو شر، يعني لم يحصل مطلوبهم، إنما كان لهم من مجيئهم هذا التعب والخيبة.
قال: وفي قوله - تبارك وتعالى -: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم.
كما روى الإمام أحمد عن سليمان بن صُرَد قال: قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: الآن نغزوهم ولا يغزونا[2]، وهكذا رواه البخاري في صحيحه.
وفي قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا أي: بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيراً، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر رسوله وعبده، فله الحمد والمنة.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (3890)، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، برقم (1344)، وأحمد في المسند، برقم (8490)، واللفظ له.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (3884)، وأحمد في المسند، برقم (18308)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، يحيى: هو ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن: هو ابن مهدي، وسفيان: هو الثوري، وأبو إسحاق: هو السبيعي، وقد صرح بالسماع".