الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ۝ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [سورة الأحزاب:26-27].

قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهد، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضري - لعنه الله - دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك، قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له كعب: بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر، ويحك يا حيي، إنك مشئوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل في الذُّروة والغَارب حتى أجابه.

هذا مثل، يقال: يفتل في الذروة والغارب، والذروة هي السنام، والغارب هو ما تحت الكتفين مما يلي السنام، يعني أول السنام، مقدم السنام، هو يريد أن يقترب من عنق البعير، والبعير شرس، ويريد أن يضع الخطام لهذا البعير، أو الزمام من أجل أن يقوده وأن يتحكم فيه، فالبعير صعب لا يستطيع أن يقترب منه، فيمسح على رأسه، لا يستطيع هذا، وإنما يبدأ يلاطفه ويسهله على السنام وما يلي الكتفين، مقدم السنام، ما تحت الكتفين يعني من جهة السنام، فيزيل عنه القراد، والبعير يأنس إذا أزيل عنه القراد، ويفتل في الوبر ويمسح عليه ويتلطف به حتى يسكن ويأنس، ثم بعد ذلك يتوصل بهذا إلى أن يزم هذا البعير ويضع له الخطام ثم بعد ذلك يقوده، فهذا يقال فيمن يحاور غيره لفتله عن رأيه، لصرفه عن رأيه، تارة يكون ذلك بالمخادعة، وتارة يكون بصرف الكلام بوجوه يفتله بها عن رأيه، يحاوره بطرق شتى، فهذا لم يزل به.

 قال: فلم يزل يفتل في الذُّروة والغَارب حتى أجابه، واشترط له حُيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له أسوتهم.

يعني يلقى المصير الذي يلقونه، يعني لا يتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، فهذا شرط اشترطه عليه، مع أن حيي بن أخطب ما كان في المدينة، كان ممن أُجلي من بني النضير، كانت وقعة بني النضير قبل قريظة.

قال: فلما نَقَضت قريظةُ، وبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ، ساءه، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله ونَصَره، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة مؤيداً منصوراً، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله ﷺ يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة - ا - إذ تبدى له جبريل معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج.

معتجراً بالعمامة يعني أنه لفها على رأسه من غير أن يتحنك بها، معتجراً بالعمامة، يعني ترك طرفها مما يلي وجهه، ولكنه لم يلتحِ بها، يعني عمائم العرب في الأصل تكون محنكة، يعني من تحت الحنك، وعمائم أهل الكتاب تكون على الرأس من غير تحنيك، هذا في الغالب بالنسبة لعمائم العرب، فجاء معتجراً بالعمامة: يعني قد لفها على رأسه من غير أن يتحنك بها، من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، قطيفة من ديباج، كساء مخمل من ديباج، هذا جبريل ﷺ، ولا يقول أحد من الناس: إن هذا يدل على جواز افتراش الديباج والإستبرق - وذلك من الحرير -؛ لأن الجلوس عليه من جملة اللباس، ويدل عليه حديث أنس "من طول ما لبس الحصير الذي قد اسود"، فاعتبر ما يجلس عليه، يقال له: إنه يلبس، أو لبس، فلا يأتي أحد ويقول: هذا دليل على جواز وضع الفرش من الحرير باعتبار أن جبريل ﷺ جاء على بغلة عليها كساء من ديباج، هذا فهم غير صحيح؛ لأن جبريل لا يرد عليه مثل هذه الخطابات الشرعية التي وجهت للمكلفين من الإنس والجن.

قال: فقال: أوضَعتَ السلاح يا رسول الله؟ قال ﷺ: نعم، قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة[1]، وفي رواية فقال له: عَذِيرك مِن مقاتل، أوضعتم السلاح؟ قال: نعم، قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء، قال رسول الله ﷺ: أين؟، قال: بني قريظة، فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم، فنهض رسول الله ﷺ من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة.

قوله: عذيرك من مقاتل، يعني هات من يعذرك في هذا الفعل، يعني ما كان لك أن تفعل هذا، ما عذرك فيه، والملائكة لم تضع أسلحتها؟، والنبي ﷺ كما هو معلوم دخل يغتسل بعد الظهر، وفي بيت أم سلمة، وأمر بالمسير إلى قريظة وأن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، فمشوا بعد الظهر.

وقريظة تقع في الجنوب الشرقي من المدينة، جانب الحرّة، الحرّة الشرقية، الجنوب الشرقي.

وذلك بعد صلاة الظهر، وقال ﷺ: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة[2]، فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا: لم يُرد منا رسول الله ﷺ إلا تعجيل المسير، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين، وتبعهم رسول الله ﷺ، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ، ثم نازلهم رسول الله ﷺ وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس .

يعني هم لما طال عليهم الحال طلبوا حكماً، قالوا: نريد حكماً، وأرسلوا شاس بن قيس للمفاوضة مع النبي ﷺ، وكانوا يطلبون أن يحكم عليهم، أو أن يجرى عليهم ما أجري على بني النضير، وبنو النضير كانوا حلفاء الخزرج، وعبد الله بن أبيّ شخصية مرموقة جاهزة لمثل هذه المواقف يشفع لليهود ويتبناهم ويدافع عنهم، ففي هذه القضايا يقوم فيها على وجه يرضي أعداء الله ، وهو الذي شفع في بني قينقاع فلم يقتلوا، وأُجلوا عن المدينة، فهم طلبوا أن يجرى عليهم ما أجري على مَن قبلهم من الإجلاء، فما أقرهم النبي ﷺ على هذا ولا وافقهم فكان آخر الأمر أنهم أرادوا النزول على حكم سعد بن معاذ باعتبار أن هذا أفضل وأقرب الحلول من أجل النجاة، باعتبار أن سعد بن معاذ هو سيد الأوس وقريظة حلفاء الأوس في الجاهلية، كما أن النضير حلفاء الخزرج في الجاهلية، وكان بينهم منافسة، فالخزرج: عبد الله بن أبيّ كانت مواقفه معروفة مع بني قينقاع، فهم أرادوا أن يحصلوا النجاة لأنفسهم فقالوا: أقرب شخص حلفاؤنا من الأوس فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، بعد هذا الحصار الذي دام خمساً وعشرين ليلة، بخلاف النضير، قال الله : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2]، فالأولية في قوله: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تحتمل أن تكون زمانية، وتحتمل أن تكون مكانية، وإذا كانت مكانية فأول أرض المحشر الذي هو أطراف الشام أدرعات التي أجلوا إليها، أو أن تكون زمانية وهذا هو الشاهد فبعضهم يقول: لأول حشر الجيش لهم، يعني بمجرد ما حشر لهم الجيش سقطوا، وهذا فيه نظر؛ لأن حصار النضير بعضهم قال: إنه استمر إلى إحدى وعشرين ليلة، وبعضهم ذكر غير هذا، بعضهم يذكر نحو قريب من أسبوع، وبعضهم يذكر قريباً من أسبوعين، الشاهد أنهم ما سقطوا من مجرد الحصار، لكن هؤلاء أطول، هؤلاء جلسوا خمساً وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وكانوا كما مر بالأمس كانوا قريباً من ثمانمائة، وبعضهم يقول: بين السبعمائة والثمانمائة، هؤلاء المقاتلون، من يقدر على حمل السلاح، وبعضهم يقول: ستمائة، وبعضهم يقول: أربعمائة وخمسون، وبعضهم يقول: الأسرى الذين أسروا وجيء بهم سبعمائة وخمسون رجلاً، وعبد الله بن أبيّ لما اعترض على حكم النبي ﷺ، كما نقل عنه في هذا أنه قال: يقتل أربعمائة دارع في صبيحة واحدة في غداة واحدة؟، يعني مقاتلين يلبسون الدروع، كيف يقتل أربعمائة واحد في صبيحة واحدة؟! الشاهد أن هذه أعداد مختلف فيها، ومثل هذا الإحصاء الناس يقدرون تقديرات، واليوم لما تسأل الناس عن أي شيء، لو قلت له: كم تقدر عدد الذين يصلون معك في المسجد؟، فهذا يقول: أربعمائة وهذا يقول: ألف، وهذا يقول: ثلاثمائة، وهذا يقول: خمسمائة، كما هو مشاهد، فالناس في تقديراتهم يتفاوتون ويختلفون، فإذا كان هؤلاء يمثلون قبيلة فكون الأسرى سبعمائة، وبعضهم يقول: سبعمائة وخمسون، الأسرى من الرجال، والله أعلم.

قال: فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس ؛ لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبيّ بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله ﷺ، فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولائك، ولم يعلموا أن سعداً ، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق، فكواه رسول الله ﷺ في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجُرها ولا تُمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة.

فافجرها يعني الجراحة التي كانت في أكحله وهي عرق يقال له: الأكحل، فيقول: افجرها يعني: دماً، فكان جرحه قد تماثل للشفاء، وجف فلما حكم فيهم ورجع مرة أخرى انفجر جرحه وهو في خيمته في المسجد حتى سال الدم من الخيمة، فقالت امرأة لها خيمة بجواره: ما هذا الدم الذي يأتي من قِبلكم؟ وتوفي .

قال: فاستجاب الله دعاءه، وقُدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله ﷺ من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطَّئوا له عليه.

يعني وضعوا له مثل الوطاء: ما يوضع على الحمار من أجل أن يركب.

قال: أقبل وهو راكب على حمار قد وطَّئوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد، إنهم مواليك، فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه.

يعني من أجل المنافسة كانوا يتبارون مع الخزرج في النجدة والأمور التي يحصلون فيها المجد.

قال: وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ: قوموا إلى سيدكم، فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته؛ ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله ﷺ: إن هؤلاء -وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت، فقال : وحكمي نافذ عليهم؟ قال ﷺ: نعم، قال: وعلى مَنْ في هذه الخيمة؟ قال: نعم، قال: وعلى مَنْ هاهنا - وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله ﷺ وهو معرض بوجهه عن رسول الله ﷺ إجلالاً وإكراماً وإعظاماً - فقال له رسول الله ﷺ: نعم، فقال : إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله ﷺ: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة[3]، وفي رواية: لقد حكمتَ بحكم المَلك[4]، ثم أمر رسول الله ﷺ بالأخاديد فَخُدّت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضَرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسَبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه، وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً.

كتاب السيرة الذي أفردناه، هذه الجملة تدل على أن ابن كثير - رحمه الله - هو الذي أفرده، وبعض الناس يقول: هذا مستل من كتاب البداية والنهاية، فابن كثير - رحمه الله - هو الذي فعل ذلك.

قال: وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه، وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً، ولله الحمد والمنة.

ولهذا قال تعالى: وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله ﷺ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني: بني قريظة من اليهود، من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طَمَعاً في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه فعليهم لعنة الله.

وقوله تعالى: مِنْ صَيَاصِيهِم يعني: حصونهم، كذا قال مجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وغيرهم من السلف.

قال: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ: وهو الخوف.

الصياصي: جمع صيصة بالكسر، والصيصة هي الحصن، ويقال: إن أصل ذلك يقال لقرن الوعل، ونحوه يدفع به عن نفسه، فقيل ذلك للحصون؛ لأنه يُدفع بها يعني عمن فيها، أو من في البلد.

و"القذف" هو الإلقاء السريع، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ، والرعب أخص من الخوف، فهو خوف يملأ القلب، الخوف على درجات، كما أن الحب على درجات، والرحمة على درجات كما هو معلوم، فالخوف أيضاً على درجات، هناك خوف، هناك خشية، هناك رهبة، وهناك هلع ورعب، والنبي ﷺ يقول: نصرت بالرعب[5]، ما قال: نصرت بالخوف، فالرعب هو خوف يملأ القلب، قد يكون الخوف يساور القلب، ولكنه لا يصل إلى هذه المرتبة، فإذا وصل إلى حد الامتلاء صار القلب فارغاً من كل شيء إلا طلب الخلاص والنجاة والفرار، فأحسن أحواله أن يفر، وقد لا تسعفه قواه فيقسط، ينهار يعني، من شدة الخوف يضطرب وقلبه يضرب بقوة، ولم يعد محلاً صالحاً للتفكير والنظر في الأمور، فضلاً عن مواجهة العدو، فأحسن الأحوال أن يفر، وإلا فقد يقعده ذلك فيرتمي بين يدي عدوه لا يستطيع الحراك، يعني أن أطراف الإنسان وأعصاب الإنسان وعضلات الإنسان كلها تخور فتخونه فيسقط، لا يستطيع أن يقوم؛ من شدة الخوف، هذا الرعب يملأ القلب، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وانظر إلى خوف أعداء الله اليوم من الإسلام، مع أن المسلمين ضعفاء جداً، ومع ذلك الخوف يكاد أن يقتلهم، وليس لهم حديث ولا شأن إلا في الحديث عن هذا الخطر الداهم الذي يشعرون أنه لا حيلة لهم فيه، فكيف لو كان المسلمون أقوياء؟!، كان أولائك جميعاً في المصحات النفسية، والله المستعان.

قال: لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب رسول الله ﷺ، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب إليهم القال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلّوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستُؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، فالذين قُتلوا هم المقاتلة، والأُسراء هم الأصاغر والنساء.

كلام ابن كثير - رحمه الله - هنا مثل كلامه الأول؛ لأن العقوبة من جنس الجناية، والمتكبرون يحشرون أمثال الذر.

قال: وروى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عُرضتُ على النبي ﷺ يوم قريظة فشكوا فيَّ، فأمر بي النبي ﷺ أن ينظروا: هل أنبتّ بعد؟ فنظروا فلم يجدوني أنبتّ، فخلي عني وألحقني بالسبي[6].

وكذا رواه أهل السنن وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه النسائي أيضاً عن عطية بنحوه.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (25097)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (67).
  2. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، برقم (904)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم (1770).
  3. الطبقات الكبرى لابن سعد (2/75)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، (5/274)، برقم (1453).
  4. رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب قول النبي ﷺ: قوموا إلى سيدكم، برقم (5907)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، برقم (1768).
  5. رواه البخاري، في أول كتاب التيمم، برقم (328)، ومسلم، في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523).
  6. رواه أحمد في المسند، برقم (19421)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير صحابيه، فقد روى له أصحاب السنن، هشيم: هو ابن بشير السلمي".