الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۦنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، نَهى أن يقال بعد هذا: "زيد بن محمد" أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه ﷺ لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم؛ فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة - ا - فماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة - ن أجمعين -، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به ﷺ، ثم ماتت بعده لستة أشهر.

يعني قد يرد سؤال: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، أن النبي ﷺ كان له أولاد؟ فالجواب -مما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ضمناً -: أن هؤلاء ماتوا جميعاً وهم صغار لم يبلغوا مبلغ الرجال.

وقد يقول قائل: والحسن والحسين، وقد قال النبي ﷺ: إن ابني هذا سيد[1]، والعلماء تكلموا في ابن البنت هل يكون ابناً؟ والله قال: وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ [سورة الأنعام:84] إلى أن قال: وَعِيسَى [سورة الأنعام:85]، وهو ابن بنت، وأما الذين يمنعون ويحتجون بقول الشاعر:

بنُونا بنُو أبنائِنا وبناتُنا بنوهنّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ

فهذا لا عبرة به، فابن البنت ابن، فهل يقال هنا: إن الحسن والحسين يرِد على هذا في قوله: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ؟ فيمكن أن يقال في الجواب: إنه أضاف ذلك إليهم مِنْ رِجَالِكُمْ والمقصود هو إبطال التبني.

وقوله تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا كقوله : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124].

الخاتَم بالفتح هو الطابع، وبالكسر الخاتِم هو فاعل الختم.

فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ من حديث جماعة من الصحابة .

روى الإمام أحمد عن أبيّ بن كعب عن النبي ﷺ قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لَبنة لم يَضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تمَّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة[2]، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك  قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي، قال: فشَقّ ذلك على الناس فقال: ولكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة[3]، وهكذا رواه الترمذي وقال: صحيح غريب.

حديث آخر: روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لَبنة، فكان مَنْ دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة! فأنا موضع اللبنة، خُتم بي الأنبياء -عليهم السلام[4].

ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لَبنَة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة[5]، انفرد به مسلم.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأكملها وأجملها، إلا موضع لَبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وَضَعْتَ هاهنا لبنة فيتم بنيانك؟!، قال رسول الله ﷺ: فكنت أنا اللبنة[6] أخرجاه.

حديث آخر: رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: فُضلت على الأنبياء بست: أعْطِيتُ جوامع الكلم، ونُصِرْتُ بالرعب، وأحِلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون[7]، ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا موضع لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة[8]، ورواه مسلم.

حديث آخر: عن جبير بن مطعم ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي[9] أخرجاه في الصحيحين، والأحاديث في هذا كثيرة.

وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسولُه ﷺ في السنة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل مَن ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك، دجال ضال مضل، ولو تحرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنَّيرنجيَّات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله على يد الأسود العَنْسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما عَلم كل ذي لب وفهم وحِجًا أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله، وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يُختموا بالمسيح الدجال، فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب ما جاء به، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ ۝ تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الآية [سورة الشعراء:221-222]، وهذا بخلاف الأنبياء - عليهم الصلاة السلام -، فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيَّدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسماوات.

لا يشكل على هذا أن عيسى ينزل في آخر الزمان، فإن المقصود أن الله - تبارك وتعالى - قد ختم النبوة ببعث محمد ﷺ، فلا يكون لأحد نبوة، لا يُنبأ أحد بعد رسول الله ﷺ، وأما عيسى فهو سابق للرسول ، ولم يمت، ومن ثَم فإنه لم تكن نبوة بعد النبي ، وكذلك - أيضاً - فإنه يحكم بشرعه، فمن ادعى تنبؤاً بعد النبي ﷺ فهو كذاب، أو مصاب بعقله، يعني قد يعتقد الناس هذا؛ لأنه مصاب بعقله، فيه مرض، كما يحصل كثيراً لبعض أصحاب الأمراض العقلية، ويتكرر هذا سواء كانت هذه الأمراض بآفة لا يدرى سببها، أو كان ذلك بسبب تلف في خلايا المخ بسبب تعاطي أمور محرمة، فتجد هذا الرجل يتكلم، وأنه يوحى إليه، ويدعو الناس إلى هذا،  وأن يؤمنوا به، وأنه سيفعل، وسيفعل، ويتكلم معتقداً لما يقول، لكنه غير مؤاخذ، مرفوع عنه القلم، والله المستعان.

هذا يتصل بإبطال التبني، والموضوعات كما سبق مترابطة، كل ذلك كان بعد وقعة الأحزاب، حتى ما سيأتي من قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [سورة الأحزاب:41]، له نوع ارتباط بما قبله، وموضوع التبني: أشير إلى أمر يتصل بزيد بن حارثة ، وهو الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن، فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا، فزيد بن حارثة تزوج خمس نسوة، أربع منهن من أشراف العرب، أربع من أشراف العرب، ثلاث من أشراف قريش، وهو مولى من الموالي، فأول امرأة تزوجها هي أم أيمن، زوجه النبي ﷺ بها، وهي مولاته، وهي أم أسامة، كان زيد بن حارثة أبيض وأسامة أسود كالليل، فهذه أول امرأة، ثم خطب له النبي ﷺ زينب وتزوجها، وهي ابنة عمته، وهو مولى، ثم إن النبي ﷺ خطب له أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهؤلاء من أشراف قريش، وهي التي هاجرت في قصة الحديبية لما نزلت آية الامتحان، كانت أول مهاجرة بعد الصلح هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، فزوجها النبي ﷺ لزيد بن حارثة، ثم طلقها بعد ذلك، ثم خطب له النبي ﷺ أو هو تزوج - درة   بنت أبي لهب، بنت عمه، ثم طلقها، ثم تزوج أخت الزبير بن العوام ، يقال لها: هند بنت العوام، لاحظ هذه الأسماء يزوجها النبي ﷺ مولى، يزوجهن مولى، وبعضهن من قريباته مثل زينب وبنت عقبة، فهذا فيه معنى، وهو إبطال التفاخر بالأنساب والعصبيات وما إلى ذلك، وفيه عبرة كبيرة، وكثير من الناس يتشبث بمثل هذه الأمور وإذا رأيت بعض ما يصدر منه من التصرفات رأيت أن ذلك لا يمكن أن يجري على ميزان صحيح، وقد تكون المرأة من أصلح الناس، ولكن لهذا المعنى لا يمكن أن يتزوجها أو أن يزوجها لأولاده أو نحو ذلك، أو أن يزوج هذا الإنسان الذي هو من حملة كتاب الله، ومن أهل الصلاح والخير، ولكنه قد يذهب إلى بلد آخر، ويتزوج امرأة لا يدري عنها شيئاً، لا يدري عن نسبها ولا عن أصلها ولا عن تربيتها، ولا عن شيء إطلاقاً، فإذا احتُج عليه في هذا قال: المرأة ماعون، يعني إناء، لا يضر التزوج، والتي عُرفت تربيتها في البلد وأخلاقها ودينها وصلاحها، هذه ينفر منها كل النفور، هذا لا يجري على ميزان ولا على مقياس، لماذا لا يقال: المرأة ماعون هنا؟ ثم يبقى ذلك علة وعاراً يلاحقه ويلاحق لربما مَن بعده من أولاده ونحو ذلك، فلا يُتزوج منهم، فهذا غير صحيح في الشرع، والعلماء تكلموا في مسألة الكفاءة في النسب، وليس هذا موضع الحديث عنها، لكن منهم من اشترط هذا، إذا كان هذا يؤدي إلى مفاسد من قطيعة الأرحام أو أضرار، كأن تطلق بناته أو أخواته أو قريباته، أو يتعطلون لا يتزوج أحد منهم، أو نحو هذا، أو يحصل بسبب ذلك أمور لربما تصل إلى القتل، فالإنسان يكون بعيداً عن هذا كله، وينأى بنفسه، والله المستعان، لكن هذا ما ينبغي أن يعتقده على أقل تقدير، والله المستعان.

يعني هل النسب الشريف نسب النبي ﷺ تأثر بهذا؟ أبداً، والله المستعان، وهذه العصبيات في كل مكان، تذهب إلى الأعاجم، أعاجم لا ترى فرقاً في الصورة ولا في الأخلاق ولا في الطبائع ولا شيء، أعاجم في بلاد متقاربة أو في البلد الواحد أحياناً، هؤلاء من أصول كذا، وهؤلاء من أصول كذا، هؤلاء يحتقرون هؤلاء، وهؤلاء يحتقرون هؤلاء، هؤلاء لا يزوجون هؤلاء، وهؤلاء لا يزوجون هؤلاء، على ماذا، هذا النسب القرشي؟! أعاجم، هذا الفخر على أي شيء، على العجمة؟! ولا ترى فرقاً لا في الصورة ولا في طبائع الناس، الشعوب هذه متقاربة، أحياناً في بلد واحدة، لكن هؤلاء من أصول كذا، وهؤلاء من أصول كذا، ويحتقرونهم ولا يرونهم شيئاً، فهذا كله خطأ، وهذا كثير في الأعاجم، وليس عند العرب فقط.

  1. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3430)، وبرقم (3536)، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين - ا.
  2. رواه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في فضل النبي ﷺ، برقم (3613)، وأحمد في المسند، برقم (21244)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5857).
  3. رواه الترمذي، كتاب الرؤيا عن رسول الله ﷺ، باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، برقم (2272)، وأحمد في المسند، برقم (13824)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير    المختار بن فُلفُل، فمن رجال مسلم"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، (8/128)، تحت حديث رقم (2473).
  4. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين، برقم (2287)، وأحمد في المسند، برقم (14888)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وأبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (1785).
  5. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين، برقم (2287)، وأحمد في المسند، برقم (11067)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين، برقم (2286)، وأحمد في المسند، برقم (8116)، وقال محققوه: " إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  7. رواه مسلم، في بداية كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523)، والترمذي، كتاب السير عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الغنيمة، برقم (1553)، وأحمد في المسند، برقم (9337).
  8. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، برقم (6852)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين، برقم (2287)، وأحمد في المسند، برقم (11067)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  9. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله ﷺ، برقم (3339)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه ﷺ، برقم (2354)، واللفظ له.