الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَىٰهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله : وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ، أي: لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه وَدَعْ أَذَاهُمْ أي: اصفح وتجاوز عنهم، وكِلْ أمرهم إلى الله، فإن فيه كفايةً لهم؛ ولهذا قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا.

هذا كما في أول السورة في قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب:1]، فيما يشيرون به وما يدعونك إليه، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [سورة الأحزاب:1-3]؛ لأنه إذا اتبعت ما أوحي إليك لن يتركوك، وسيصل إليك ألوان الأذى منهم، فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فوِّضْ أمرك إلى الله ، فالله كافيك، فهنا قال: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لا تجعل من هؤلاء مستشارين، ولا تسمع ما يقولون، وما يشيرون به، وما يدعونك إليه، قال: وَدَعْ أَذَاهُمْ قال: أي لا تطعهم وتسمع منهم، وَدَعْ أَذَاهُمْ أي: اصفح وتجاوز عنهم، وكِل أمرهم إلى الله فإن فيه كفاية لهم، وَدَعْ أَذَاهُمْ يمكن أن يكون الأذى مصدراً مضافاً إلى الفاعل، ويمكن أن يكون مضافاً إلى المفعول، والمعنى يتغير تماماً، فإذا كان من قبيل الإضافة إلى الفاعل، وَدَعْ أَذَاهُمْ أي: دع، يعني لا توصل الأذى لهم، وَدَعْ أَذَاهُمْ يعني: دع أن تؤذيهم مجازاة على أذيتهم لك، لا تؤذهم، أعرِض عنهم، لا تنتقم منهم وَدَعْ أَذَاهُمْ، والمعنى الثاني: أن يكون من قبيل الإضافة إلى المفعول وَدَعْ أَذَاهُمْ دع الأذى الصادر منهم إليك، فإنهم سيؤذونك فلا تلتفت إلى ذلك ولا تعبأ به، ووُجِّه إلى أن يتوكل على الله وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا فالله سيكفيك ذلك جميعاً، وَدَعْ أَذَاهُمْ، المعنى الأول لا توصل إليهم أذى، لا يصل إليهم منك أذى، وَدَعْ أَذَاهُمْ لا تؤذهم أعرض عنهم، المعنى الثاني: وَدَعْ أَذَاهُمْ لا تكترث ولا تعبأ بما يؤذونك به، أعرض عن أذاهم فإنه لا يضرك، كما قال الله : لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [سورة آل عمران:111] والأذى غير الضرر - والاستثناء منقطع هنا -، كما في قوله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر[1]، فهذا أذى، وفي الحديث الآخر: لن تبلغوا ضري فتضروني[2]، فالضر لا يصل، المخلوق أضعف من أن يوصل الضر إلى الله ، لكن يمكن أن يوصل الأذى، فالأذى يصل، لكن الضر لا يصل، المخلوق أضعف من أن يضر الله ، ولهذا قال: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فالاستثناء منقطع، يعني: لكن أذى، فالأذى لا يضر، فهؤلاء من المنافقين حينما يرجفون بأهل الإيمان من أهل الصلاح أو العلم، ويتكلمون في أعراضهم ويخوضون، هذا لا يضرهم، وإنما يضر من صدر منه، وقد مضى الكلام على قوله - تبارك وتعالى - في سورة النور: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [سورة النور:26]، وأن ابن جرير - رحمه الله - قال - بل هذا قول الجمهور -: الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأقوال، والطيبون من الناس للطيبات من القول، والطبيات من القول للطيبين من الناس، فإذا صدرت من الطيبين - أعني الطيبات - نفعتهم، وإذا قيلت فيهم فهم أهلها وأحق بها، والخبيثات من الأقوال إذا صدرت من أهل الشر والفساد فهم معدنها وأهلها، وإذا قيلت فيهم فهم أليق بذلك، فهذا وصفهم، هذا قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير، مع أن الآية تحتمل معنى آخر كما سبق في الكلام على سورة النور من أن الخبيثات يشمل هذا والأفعال، وكذلك النساء، ولكن القائل: إن الخبيثات من النساء للخبيثين من الناس، هذا لم ينقل إلا عن واحد من السلف هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والبقية كلهم يقولون: الخبيثات من القول، فلا ينبغي للإنسان أن يكترث ويعبأ بهذه الهجمات المنظمة التي يتولى كبرها بعض المنافقين؛ للوقيعة في أهل الإيمان والصلاح والخير والدعاة إلى الله ، فإن ذلك لا يزيدهم إلا رفعة، والواقع يشهد بهذا، فإن مقاصدهم ومطالبهم من إسقاط هؤلاء وتشويه سمعتهم وما إلى ذلك، كل ذلك لم يحصل، بل ازدادوا رفعة ومحبة في قلوب أهل الإيمان، وهذا هو الفرق بين أهل الإيمان وبين أهل النفاق، فإن أولائك إذا هُتكوا وفُضحوا سَقطوا، وأما أهل الصلاح والخير فإنهم كالعود الطيب إذا أوقد عليه فإنه يزكو برائحته.

وقوله: وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ على المعنى الأول: لا تؤذهم، فإن الذين يقولون: إن آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، فعندهم أن هذه منسوخة، مع أن آية السيف وهي الخامسة من سورة براءة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5] إلى آخره، في الواقع أنها لم تنسخ هذه الآيات كما سبق في مناسبات شتى، وأن هذا في مراحل، وأنه في وقت الضعف في أول الإسلام يؤمر المسلمون بالعفو والصفح والإعراض واحتمال الأذى، لكن هذا كله كان بعد وقعة الأحزاب، ولم يكن وقت ضعف بل وقت قوة، والنبي ﷺ قد انتصر على قريظة كما انتصر على النضير، وعلى بني قينقاع، فهل يقال: إن هذا كان في وقت الضعف وأنه أُمر ﷺ بأن لا يوصل إليهم الأذى، لو قيل ذلك في المنافقين، وأنه أُمر بالإعراض عنهم فهذا قد يحتمل، لكنّ الكافرين هو مأمور بمجاهدتهم؛ ولهذا فإن الأقرب، - والله تعالى أعلم - أن يحمل هذا على المعنى الآخر، وَدَعْ أَذَاهُمْ يعني: لا تكترث بما يوصلونه إليك من الأذى، ووجه الارتباط بما قبله أن المنافقين آذوا النبي ﷺ كثيراً في هذه الواقعة وقول عبد الله بن أبي: يقتل مائة دارع في غداة واحدة، يعترض على الحكم الذي قال النبي ﷺ عنه إنه: حكم الله من فوق سبعة أرقعة[3]، سبع سماوات، ويعترض عليه يقول: كيف يقتل مائة دارع؟، أي مقاتل، أربعمائة دارع، وسبق أن هؤلاء بعضهم قدرهم بسبعمائة وبعضهم قدرهم بسبعمائة وخمسين، قتلهم في غداة في صبيحة يوم، فهو يعترض على هذا، فهذا من أذاهم، كذلك فيما يتصل بهذه الآيات إبطال التبني بتزويج النبي ﷺ من زينب، كان النبي ﷺ يتخوف ألسن المنافقين، قال الله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه [سورة الأحزاب:37]، فهنا قال: وَدَعْ أَذَاهُمْ لا تكترث بهم، فليتكلموا كما شاءوا.

وإذا تكاثرت الخصومُ وصَيَّحوا فاثبُتْ فصيحتُهم كمثلِ دخانِ
يرقَى إلى الأوجِ الرفيعِ وبعدَه يهوِي إلى قعرِ الحضيضِ الداني

هذا قدرهم، وهذه حالهم.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم الجاثية، برقم (4549)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
  2. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  3. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، (2/75)، بهذا اللفظ، ورواه البخاري بلفظ أن النبي ﷺ قال له بعد أن حكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم: حكمت بحكم الله أو بحكم الملِك، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن معاذ ، برقم (3593).