لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [سورة الأحزاب:52].
ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم: أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي ﷺ ورضاً عنهن، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله ﷺ كما تقدم في الآية، فلما اخترن رسول الله ﷺ، كان جزاؤهن أن الله تعالى قَصَره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوُّجٌ لتكون المنة للرسول ﷺ عليهن.
روى الإمام أحمد عن عائشة - ا -، قالت: ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل الله له النساء[1]، ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما.
وقال آخرون: بل معنى الآية: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ أي: من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك، هذا مرويّ عن أبي بن كعب، ومجاهد - في رواية عنه -، وعن غيرهما.
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله ﷺ عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
واختار ابن جرير - رحمه الله - أن الآية عامة فيمن ذُكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد، ولعله مراد كثير من السلف؛ فإن كثيراً منهم رُوي عنه هذا وهذا، ولا منافاة، والله أعلم.
قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ذكر قولين ثم ذكر الترجيح بينهما، يعني كأن الترجيح هو قول ثالث، أي اختيار ابن جرير وقواه ابن كثير، فحاصل ذلك أن قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ من بعد ماذا؟ فالقول الأول: يحرم عليه التزوج على نسائه اللاتي اخترنه، لا يتزوج عليهن مكافأة لهن، وهذا مروي عن ابن عباس لكن بإسناد ضعيف، وقال به كثيرون كقتادة وعلي بن الحسين زين العابدين، والضحاك واختاره القرطبي، وقال: إنه منسوخ لقوله: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [سورة الأحزاب:50]، الآية منسوخة، يعني: حرم عليه التزوج ثم أبيح له ذلك بالآية إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ، وبعضهم يقول: منسوخ والناسخ حديث عائشة - ا - قالت: ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل الله له النساء، وكلام أهل العلم في نسخ السنة للقرآن معروف، وهذا على القول بالنسخ، والقول الآخر: أنها ليست منسوخة، وأن المقصود في قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: من بعد ما ذكر، ما الذي أحل الله له؟، أحل أزواجه وبنات عمه وبنات عماته.. إلى آخر اللاتي هاجرن معه، والواهبات، وما ملكت يمينه، فهؤلاء أحلهن الله له، وما وراء ذلك لا يحل له، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: غير الموصوفات في هذه الآية، وهذا قال به أكثر السلف، قال به كثيرون، وهنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: لا يَحِلُّ أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء، وما سَمّى القائلين بهذا، لكنهم كثير جداً، كالسدي وقتادة والحسن ومجاهد وهو منقول عن أبيّ بن كعب، وأبي صالح وعكرمة والضحاك، والذي يصلح أن يكون قولاً ثالثاً وهو لا يخرج عن القولين: أن الآية تشمل هذا وهذا، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ، ولا أن تبدل بهن من أزواج، انظر ماذا قال ابن كثير - رحمه الله - قال: اختار ابن جرير: أن الآية عامة فيمن ذُكر من أصناف النساء، وفي النساء اللاتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير من السلف، لكن قد لا يخلو من إشكال هذا الجمع بين القولين، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ يعني: غير الموصوفات، إذا قلنا هذا فظاهره أنه إن كانت من الموصوفات فيحل له أن يتزوجها من واهبة أو من بنات عمه... إلى آخره اللاتي هاجرن معه؛ لأنه يحل له، والقول الآخر: أنه لا يحل له أن يتزوج على أزواجه، لا من الموصوفات، ولا من غير الموصوفات، فكيف يقال: إن الآية تشمل النوعين، وإنه يحمل على ذلك جميعاً لا يَحِلُّ لَكَ مع أن هذا ظاهره أنه من قبيل اختلاف التضاد الذي لا يمكن الجمع فيه بين القولين؟، خلاف التضاد أحياناً يمكن الجمع بين القولين، وأحياناً لا يمكن، فإذا قلنا: لا يحل له غير الموصوفات، فمعنى ذلك أنه إن كانت من الموصوفات فهي حلال، كالواهبة وبنات العم إلى آخره اللاتي هاجرن معه، فيتزوج على نسائه من هؤلاء.
القول الثاني: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ يعني: أن تتزوج على هؤلاء النسوة اللاتي في حبالك، في عصمتك، اللاتي اخترنك، وهو اختيار القرطبي، لا من الموصوفات ولا من غير الموصوفات، لا من الواهبات ولا من غير الواهبات، وعلى هذا فإن هذا يقتضي الترجيح، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ تبقى الآية محتملة للمعنيين، إما أن نقول هي مكافأة لأزواجه فلا يتزوج عليهن أبداً، لا واهبة ولا غير واهبة، أو يقال: لا يحل له أن يتزوج من غير ما وصف الله ، ومن ثَمّ فإن غير المسلمة لا تحل له، كما حمل الآية على ذلك مجاهد بن جبر - رحمه الله -، لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ، فتبقى الآية محتملة للمعنيين، ولا يقال بأنها تحمل عليه، وقد تكون القرينة مرجحة للمعنى الأول: أنه لا يحل له أن يتزوج عليهن وهو ما اختاره القرطبي وغيره، والقرينة هي قوله: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني: لا تتزوج عليهن فتزيد، ولا أن تستبدل، هذا أقرب للمكافأة لهن، فيكون نهاه عن هذا وهذا، لكن لو قيل: غير الموصوفات، لا يحل لك غير الموصوفات، فيحل له أن يتزوج من الموصوفات وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، لكن لو قيل: إنه لا يزيد على من عنده فقد يفهم منه أنه لو طلق واحدة وتزوج مكانها أخرى فلم يزد على العدد لكان ذلك سائغاً، فقال: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، كأن هذا أقرب - والله تعالى أعلم -، وأن قوله: وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ قرينة ترجح القول الأول، وهو: أنه نهي عن التزوج، ويبقى النظر بعد ذلك: هل نسخ ذلك أو لم ينسخ؟، وهذه الآيات نازلة في السنة الخامسة من الهجرة، بعد وقعة الأحزاب، فكافأهن حينما اخترنه .
فالآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته، فيحمل على القولين، لا يأخذ من غير ما وصف، ولا يتزوج على نسائه.
هذا الآن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ حمله ابن كثير على الزيادة، إن طلق واحدة، بما أنه لا يحل له النساء من بعد، إذا قلنا: لا يزيد على من عنده، فليس له أن يطلق ويستبدل، وهذه حاصل أقوال المفسرين فيها ثلاثة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، بعضهم يقول: لا يحل لك النساء بعد المسلمات، ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من الكافرات، هذا منقول عن مجاهد.
القول الثاني: أنه لا يحل له أن يتبدل بأزواجه غيرهن، فيطلق أزواجه أو بعض أزواجه ويتزوج غيرهن، وهذا قال به الضحاك وهو ظاهر اختيار ابن جرير - رحمه الله -، وهو ما مشى عليه ابن كثير في ظاهر عبارة المختصر، وأنت تقول الآن: إنه في الأصل: أن يزيد أو طلاق واحدة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، لكنه يشير فيما يظهر إلى أن قوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ يعني: بالزيادة، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بأن يطلق واحدة ويتزوج مكانها، فيكون هذا ليس هو تفسيراً لقوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، وإنما ذكر مجموع المعنى من أول الآية وآخرها، فهنا هذا المعنى الثاني الذي مشى عليه ابن كثير وابن جرير، وبعضهم - وهو منقول عن ابن زيد، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - قال: إنه منهي أن يستبدل بأحد من أزواجه كما كان عليه أهل الجاهلية، الرجل يأتي للرجل، ويقول: بادلني امرأتك، فيتبادلان، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ، وهذا بعيد؛ لأن هذا يحرم عليه وعلى غيره ، فليس هذا هو المراد من الآية، فيبقى أن قوله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ يعني: أن يطلق ويتزوج مكانها.
- رواه النسائي، كتاب النكاح، باب ما افترض الله على رسوله وحرمه على خلقه ليزيده - إن شاء الله - قربة إليه، برقم (3204)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3216)، وقال أبو عيسى: "هذا حديث حسن"، وأحمد في المسند، برقم (25467)، وضعفه محققو المسند.