السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ۝ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ۝ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا [سورة الأحزاب:59-62].

لما نهى الله وحذر من أذيته وأذية رسوله وأذية المؤمنين أمر الله - تبارك وتعالى - بعض من يلحقهم الأذى بترك أسبابه الموصلة إليه، يعني في المرأة لربما يطالها أذى كثير من بهت، وقذف، وأذى بألوان مختلفة، فأمر الله بالحجاب والحشمة والتستر لهذا.

يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء، والجلباب هو: الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخرساني، وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم.

قال الجوهري: الجلباب: الملحفة.

الملحفة: الرداء فوق الخمار، يعني بمنزلة العباءة التي تلبسها المرأة، فالخمار وحده لا يكفي، هذا الذي يسميه بعضهم: الحجاب، تضع شيئاً على رأسها ثم تظهر بعد ذلك بملابس لربما لا تستر، تلبس بنطالاً ونحو ذلك وتذهب إلى الجامعة، وعلى رأسها شيء تغطيه به، فهذا لا يكفي، وليس بحجاب شرعي، فهو الرداء فوق الخمار، وهذا شيء معروف حتى عند أهل الجاهلية، أن المرأة لا تخرج هكذا، كما تخرج كثير من النساء اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا لا يعرف حتى عند الجاهليين، وإنما غاية ما ذكر أنها قد تبدي شيئاً من نحرها، يعني: تضع ذلك على رأسها، ثم بعد ذلك لا تشده فيبدو موضع القلادة ونحو ذلك، فهذا تبرج الجاهلية الذي فسر به ذلك الموضع من كتاب الله - تبارك وتعالى -، فالشاهد أن الجلباب كان يعرفه أهل الجاهلية، ولما جاء الإسلام زاد ذلك تقريراً وتأكيداً إذ هو من الستر والحشمة، ومما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه، في مرثيتها التي قالت في ضمن ما قالت فيها:

تمشي النُّسورُ إليه وهي لاهيةٌ مشْيَ العذارى عليهنّ الجلابيبُ

فتمشي العذراء عليها الجلباب، مثل النسر إذا كان يمشي بأجنحته، فهي تصف أخاها وهو طريح قتيل وتأتيه النسور تمشي إليه مشي العذارى عليهن الجلابيب، فكانوا يعرفون مثل هذا، خلافاً لمن يقول: إن هذه بدعة وإن هذا لا يعرف، أو إن هذه عادات وتقاليد، فالله يقول: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، وهو بمعنى قول الجوهري: الجلباب: الملحفة.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة.

وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السّلماني عن قول الله : يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.

هذا قال به ابن عون، فهذا من ابن عباس - ا - وابن سيرين وابن عون، كله محمول على تغطية الوجه، وهذا فيه رد على من يقول: إن تغطية الوجه لا تعرف، وإنها محدثة، وإنه لا أصل لها، فهذا الكلام غير صحيح، بل ذلك معلوم مشهور، والدلائل عليه كثيرة جداً، ولا يُعرف أن امرأة مسلمة كانت تكشف وجهها في مشارق الأرض ومغاربها قبل مجيء الاستعمار، هذا لا يعرف، والعلماء - رحمهم الله - في مضامين كلامهم وفي رحلاتهم حينما يأتون بلداً أو يصفون الحال في البلد التي يمرون عليها يذكرون أشياء من هذا القبيل، فمنهم من يقول: ما رأيت امرأة قط أصلاً، يقول: ما رأيت النساء، كأن البلد ليس فيه نساء، ولما جاء الاستعمار الفرنسي إلى مصر كان الناس يتعجبون من النساء الفرنسيات، ومن جرأتهن، ولما جاءت الدعوة إلى ما يسمى بتحرير المرأة ذهب ثماني نسوة إلى أوروبا بلا محرم لأول مرة، كان خمس يغطين وجوههن، من دعاة تحرير المرأة، وثلاث كاشفات، فكان الغربيون يقولون: إن الثلاث مستعارات، استعارتهن مصر ولسن من المصريات، لا يصدقون أن امرأة مسلمة تكشف وجهها، وتجدون في كتاب جيد اسمه "هل يكذب التاريخ"، ذكر فيه صوراً قديمة لنساء من البوسنة إلى المغرب، صور لا توجد امرأة تكشف وجهها، وحجاب لا يمكن أن يقارن بالحجاب الذي عندنا اليوم في هيئته وصورته، والمرأة أبعد ما تكون عن الفتنة، لكن لما جاء الاستعمار حصل العبث، والذين أبقوا الحجاب كثير منهم حولوه إلى فتنة، لربما تفوق فتنة من نزعوا الحجاب، وهو لون من التبرج، وللأسف الشيطان لا يترك أحداً، فيأتي إلى من يتحجبن فيحول حجابهن إلى فتنة إلا من رحم الله ، ويأتي لأهل الصلاح ويُسمعهم السماع المحرم ويسميه نشيداً، وهكذا، فالمقصود أن هذا الكتاب هو في غاية الفائدة، فهو يرد رداً بليغاً على الذين يكابرون في هذه القضية، يقال لهم: هذه الصور، لا تقرأ، تصفح فقط، حتى تعرف الحالة التي كان عليها الناس قبل الاستعمار، وتعرفون ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - في بلاد الشام، لما خرجت وكيلة مدرسة قد أبدت وجهها فقط، فأقفل الناس الأسواق وأضربوا حتى فصلت من عملها، - والله المستعان -، واليوم يأتيك من يقول لك: أصلاً هذه المسألة خلافية، قول الجمهور، أو يقول لك: إن هذا الأمر عادات وتقاليد، مزجنا العادات والتقاليد بالدين، وهذا كله تكذبه الأدلة، ويكذبه واقع الأمة قبل مجيء الاستعمار.

قال: وأبرز عينه اليسرى، بمعنى أنها تُخرج العين من أجل أن تنظر، لا أن تخرج ما حولها مع الزينة كالكحل، فإن هذا لون من التبرج، وجاء عن ابن عباس - ا -، لكن بسند صحيح: أن تشد جلبابها على جبهتها وتتقنع، تشد الجلباب، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ تشده على جبهتها وتتقنع، والقناع: ما يغطي الوجه.

وجاء عن عمر : ما يمنع المرأة المسلمة إذا أرادت أن تخرج أن تلبس من أطمارها أو أطمار جارتها، الأطمار هي الثياب الخلقة البالية، يعني لا تلبس عباءة مزينة أنيقة، والله المستعان.

وقوله: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، "مِن" هذه مِنْ جَلابِيبِهِنَّ يمكن أن تكون تبعيضية، والتبعيض هنا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، يعني أن الحرة لا تكون متبذلة في درع وخمار كالأمَة، إنما يكون لها جلبابان فأكثر في بيتها، بحيث يكون لها عناية بهذا الأمر، والأمة تخرج بدرع وخمار، الدرع المقصود به الثوب، يعني: تخرج بثوب، ما يسميه العامة اليوم: دراعة، وخمار؛ لأن شرفها ليس كالحرة، فتخرج بهذه الصفة، أما الحرة فلا، الحرة يحتاط لها ويحترز لها، وتكون في حال من الصيانة والحشمة أعظم من حال الأمة، لا أن تعكس القضية، ويكون التبذل والتهتك سمة للتحضر والتحرر والتقدم، فهو تحرر من قيود الشريعة، ومن قيود الحشمة والعفاف إلى الابتذال، يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا، فهذا مما يدعو إليه الشيطان، والله المستعان.

المعنى الثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها الذي عليها على وجهها لتتقنع به؛ حتى تتميز عن الأمة، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ: تغطي، فتتميز عن الإماء، ولهذا قال بعده: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، قال: أي إذا فعلن ذلك عُرفن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر، فإذا كانت لا تحتشم تتبذل فذلك صنيع الإماء أو العاهرات، أما الحرة فلا تكون بهذه المثابة، وبعد هذا لا يحتاج أن يجادل أحد، ويقول: مسألة كشف الوجه لا إشكال فيها، وليست من الدين، وكذلك لون هذا الحجاب، حينما يقال: لماذا السواد؟ نقول: إن عائشة - ا - لما ذكرت نساء الأنصار لما نزل الحجاب قالت: شققن مروطهن، الشاهد أنها قالت: فخرجن كأن على رءوسهن الغربان[1]، ولا يوجد غراب أبيض أبداً، فالغراب أسود، والسواد في اللباس أبعد عن الألوان المزينة، فتلبس هذا، والمسألة ليست مجرد مناقشة علمية، إنما هو إرجاف بالحجاب وأهله، وأصبحت القضية تضرب من جهات عدة لزعزعته والتشكيك فيه، تارة بتغيير اللون، وتارة بتغيير الهيئة، وتارة بتحويله إلى فتنة، عباءة فرنسية! وما شأن الفرنسيين بالعباءة؟ وهذا من أعجب الأشياء، والنساء لا يتوقفن من السؤال، هؤلاء اللاتي يسألن ما يتوقفن من السؤال، عباءة فراشة، عباءة على الكتف واسعة، عباءة على الرأس إذا وضعتها على الكتف تنكمش، أنا أتأذى من عباءة الرأس، تسقط وتوطأ بالأقدام، وليست سهلة في الحركة ولا عملية، الآن صارت ليست عملية ولا سهلة! مثل كشف الوجه في البداية النقاب، أنا ما أشوف، صاروا ما يشوفون الآن، وصار تحول النقاب إلى هذا العبث الذي نشاهد، ثم صار كشف الوجه، والآن المثقفة هي التي تجلس في الخلف مع السائق لوحدها لربما، ومعها كتاب تقرأ وكاشفة لوجهها، كأنها تقرأ ما شاء الله تفسير ابن جرير أو تفسير ابن كثير، تقرأ مجلة سيئة، أو رواية سيئة، وتبدو أنها امرأة في غاية التحضر والأناقة، وما علموا أن هذا من طاعة الشيطان واتباع ما يمليه من خطواته، وتلاعبه بالنساء، والعتب على الأولياء الذين تساهلوا وفرطوا، فالواحد يرى عرضه بهذه الطريقة ولا يتحرك فيه شيء، والله المستعان.

وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي: إذا فعلن ذلك عُرِفْنَ أنَّهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر.

ابن كثير في الشام وليس بحنبلي ولا نجدي ولا فقيه بدوي، كما يحلو لبعضهم أن يعبر، بل هو شافعي في القرن الثامن الهجري.

وقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أي: لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.

  1. رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قول الله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، برقم (4101)، وصححه الألباني في كتاب جلباب المرأة المسلمة، (ص83).