وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سورة سبأ:20-21].
لما ذكر الله تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالف الرشاد والهدى، فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ.
قال ابن عباس وغيره: هذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم، ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا [سورة الإسراء:62]، ثم قال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف:17] والآيات في هذا كثيرة.
يعني أن إبليس حينما قال هذا الكلام قاله عن ظن ظنه وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا يأخذ هؤلاء الذرية من الحنك وما أخذ من الحنك فإنه لا يستطيع الانفلات أليس كذلك؟ غير لما يؤخذ من اليد مثلاً لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا، وبناء على هذا على أي شيء حكم بناء على ظن ظنه، هل هذا الظن حينما قال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ تحقق أو خاب ظنه في هؤلاء الذرية فلم يطيعوه أن يستجيبوا له، الواقع أن هذا الظن تحقق وصار أكثر الناس من جنوده وحزبه وأتباعه وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فهذا بناء على ظن ظنه، طيب وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ هذه القراءة صدق هي قراءة حمزة والكسائي وعاصم، فالظن هنا مفعول به صدق ظنه في هؤلاء، يعني صدق الظن الذي ظنه كما يقول الشنقيطي - رحمه الله - في دروسه يردد هذا المعنى يقول: إنه ليعرق الجبين من ما وقع لذرية آدم حيث قال الله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ظن فيهم ظناً، كانوا عند ظنه أنه سيستطيع أن يظلهم وأن يجتالهم ويصدهم عن سبيل الله - تبارك وتعالى - فتحقق ذلك في أكثر الخلق - نسأل الله العافية - والهداية والثبات على الحق، أما قراءة الجمهور وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ وهي ترجع إلى المعنى الأول يعني صدق عليهم ظنٌ ظنه أو صدق في ظنه أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، كما يقول ابن جرير - رحمه الله - وغيره، صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ بنصب ظنه المعنى يرجع إلى شيء واحد، لكن في قراءة أبي جعفر وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُهُ بالرفع بمعنى صدق ظن، ظن إبليس، الظن فاعل صدق إبليس ظنه، من الذي صدق إبليس من الذي فعل به هذا ظنه مثل ما تقول: ضرب زيداً عمه، فالذي ضرب زيد عمه فيكون الظن هنا فاعل وإبليس مفعول به، يعني أن إبليس سول له ظنه شيئاً فيه فصدق ظنه الذي ظنه، صدق عليهم ظن إبليس فكانوا حائدين عن الصراط المستقيم، وفي رواية عن أبي عمر من السبعة برفع إبليس وظنه صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُهُ مع تخفيف صدق، فيكون صدق إبليس ظنه، يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس، بدل اشتمال تقول مثلاً أعجبني زيداً خُلقه، يعني الذي أعجبني خلق زيد، أعجبني زيد كرمه وما أشبه ذلك، فهؤلاء الذين صدق عليهم ظن إبليس، بعض أهل العلم يقول: هذه المقصود بها أهل سبأ، الحديث عنهم فالذين صدق عنهم ظن إبليس هم هؤلاء ممن قص الله خبرهم بهذه الآيات، وبعضهم يقول هذه في الخلق في بني آدم كما تدل عليه الآيات الأخرى فهي عامة فصدق ظن إبليس لهؤلاء وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ فكانوا كما ظن، ويدخل فيها قوم سبأ دخولاً أولياً، فتكون الآية عامة فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلا فريقاً استثنى الفريق من المؤمنين وهذا يحتمل معنيين فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ باعتبار أن تكون من تبعيضية يعني أيضاً ليس كل المؤمنين بل بعض المؤمنين باعتبار أن البعض الآخر يقعون في الكبائر واتباع الهوى فيطيعون الشيطان مع بقاءه على حال الإيمان، فيطيعون الشيطان في أمور من أهواءهم وإن لم يكونوا من حزبه، ويطيعونه طاعة مطلقة هذا معنى ذكره بعض أهل العلم، المعنى الثاني أن تكون من بيانيه وليست تبعيضية إلا فريقاً، فالفريق هذا من المؤمنين، تقول: إلا ثوباً من خز، باعتبار أن من بيانية إلا فريقاً هذا الفريق هم أهل الإيمان، فيكون المقصود بذلك أن المثيرين صاروا من حزب إبليس، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يعني من أتباعه وأولياءه الكفار إلا القليل وهم أهل الإيمان بطوائفهم الثلاث ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32]، فهؤلاء أهل الإيمان أهل النجاة، فهؤلاء ليسوا حزب إبليس وأن كان فيهم العصاة وأهل الكبائر وما شابه ذلك، المعنى الثاني إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ويكون هؤلاء بمعنى إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [سورة الإسراء:65] يعني أهل الإيمان أهل العبودية الخاصة وإلا كل من في السموات والأرض فهو عبداً لله إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [سورة مريم:93] فلا يخرج أحد عن هذه الصفة وهي عبودية القهر، أما عبودية الاختيار فهي لأهل الإيمان، لأهل الإيمان على تفاوت مراتبهم في تحقيق هذه العبودية، فهذان معنيان والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك الاستثناء لأهل الإيمان عموماً، كما تدل عليه ظواهر الآيات الأخرى لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا، فهؤلاء أهل الإيمان وإن كانوا عصاة هل هم داخلون في هذا؟ الجواب لا، فالقليل هم أهل الإيمان الذين لم يأسرهم الشيطان أسراً مطلقاً، وأن كان لهم بعض الأسر بحسب أتباعهم وطاعتهم لإبليس.