قوله - تبارك وتعالى - هنا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا اتخذوه: أضفنا في بعض المناسبات أن الاتخاذ يدل على مزيد من عناية الشيء أن اتخذ، يقول: اتخذت فلاناً صاحباً، اتخذت الشيء الفلاني طعاماً، اتخذت المكان الفلاني، اتخذت المسجد مجلساً ونحو هذا، فهنا فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر معنى لطيفاً وهو أن المراد باتخاذه عدواً التنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته فهو عدو لا يفتر يتربص بك في كل حالاتك، وتربُّصه ووساوسه وخواطره وتزيينه بقدر الأنفاس، فجد واجتهد وكن على حذر دائم، لا تفتر، واقع كثير من الناس أنهم اتخذوه ولياً وصاروا من حزبه، والله - تبارك وتعالى - قد قص ذلك مفصلاً في خبره مع أبينا آدم ﷺ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:62]، وقال: وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين [سورة الأعراف:17]، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] فهو يتوعد ويتهدد، صار كثير من الناس بطاعتهم له واستجابتهم لتزيينه صاروا من حزبه وأوليائه، فكيف يُتخذ هذا العدو، كيف يُتخذ متبوعاً ومطاعاً وتترك طاعة الله وعبادته؟! فالله - تبارك وتعالى - لعنه وطرده وأخرجه من الملأ الأعلى؛ لأنه امتنع عن سجدة لأبينا آدم ﷺ، أبَى هذا التكريم لأبينا آدم فلعنه وطرده، ثم بعد ذلك تُترك عبادة الله ويتبع هذا الشيطان و يطاع ويعبد من دون الله - تبارك وتعالى - فهذا لا شك أنه أعظم الكفران والجحود للمنعم المتفضل وتقدست أسماؤه، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ نحن في العادة لا نستطرد في مثل هذه الأشياء إنما فقط نوجه الأقوال لطلاب العلم وما إلى ذلك فيما يذكره ابن كثير فحسب، لكن بعض المواضع تحتاج إلى توجيهٍ قدْرَ الحاجة إليها، فمن هذه الأشياء التي ينبغي أن يحذرها الإنسان هي ما يُلقيه من الوساوس والخواطر التي قد لا يظن الكثير من الناس أنها من الشيطان، فمن هذه الخواطر والوساوس التي تقتل الكثيرين المخاوف التي تتعاظم في قلوبهم المخاوف أيًّا كانت، بعض الناس مخاوفهم من المرض يتوجس ويتوقع ويتحسس ويؤمل شراً بصورة دائمة، فهو مريض قبل أن يمرض، فهذا من الشيطان سواء كانت هذه العلة أنه مريض بمرض من الأمراض العضوية أو أنه مصاب بمس أو سحر أو عين أو غير ذلك، تخور قواه أو يضعف ويقعد عن كثير من مزاولاته فلا ينتفع بعمل عرض دنيا ولا آخرة، ويبدأ في عمل طويل ينشغل به كثيراً وليس به علة فهذا من الشيطان، وحاله مع ابن آدم كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مثل هذا يقول: الغزال أسرع من الكلب، ولكن الكلب حينما يجري خلفه تحين من الغزال التفاتة من شدة الخوف فإذا التفت خارت قواه فانثنى عزمه فسقط وضعف جريه فيتمكن منه الكلب هكذا يصيده، فالإنسان حينما يلتفت إلى الشيطان يلتفت إلى عدوه هنا الشيطان يقوى ويطمع فيه، فإذا التفت إلى خواطره ووساوسه تسلط عليه وقوي عليه فلا يزال به حتى يجثم على صدره ويتمكن منه فيمرضه ويقعده، ويلقي في قلبه ألوان الخواطر والوساوس والعلل والأدواء الكثيرة، فهذا لون يدخل فيه ما شئت من الوسوسة في الصلاة، والوسوسة في الطهارة، والوسوسة في الطلاق، والوسوسة في العقيدة، ويدخل فيه أشياء تتعلق بالعلل البدنية فيدخل فيه أشياء من الأمور النفسانية، وما يسمى بالوسواس القهري وغير ذلك، كل هذا يرجع إلى تسلط هذا الشيطان ولربما قوي واشتد فصرعه فسقط يتلبط ويتخبط ولربما زين له المنكر والفاحشة ومعصية الله بأمور قد لا تخطر للإنسان على بال، وإنما هي من قبيل خطواته يبدأ معه بالشيء المباح، ثم بعد ذلك في المشتبه، ثم بعد ذلك بتأويل وتبرير، ثم بعد ذلك ينتقل به إلى أمور ظاهرة هي من قبيل اللمم، ثم ينقله بعد ذلك حيث يكون مهيأ إلى كبائر الإثم، ثم بعد ذلك ينقله إلى الكفر بالله ، وهذا التدرج حاصل في المعاصي وحاصل في الخواطر والوساوس والشكوك الأخرى، ولهذا الذين يستجيبون حتى في باب الطهارة والصلاة للوساوس بعضهم حدثني أنه صار لا يصلي لمدة شهر من العذاب الذي كان يلقاه في الطهارة، يقول من العصر إلى ١٢ بالليل وأنا أتوضأ، وبعضهم ذكر سنة كاملة لا يغتسل من الجنابة؛ لأن بعض الناس - نسأل الله العافية - عنده وسواس في الغسل، وبعض النساء تذكر أنها تغتسل مرات كثيرة جداً حتى إنها إذا ذهبت إلى مكة كلما مرت برجل شعرت أنها أنزلت فترجع وتغتسل، وترجع وتغتسل، وترجع وتغتسل طول اليوم وهي تغتسل، وبعضهن تقول: بمجرد ما يخطر ببالها شيء تشعر أنها أنزلت حتى لو كانت في البيت لا ترى رجلاً، هذا لا يمكن في مجال العادات، لا يمكن وقوى البشر لا تحتمله كيف تفعلين؟! وإن كان هذا فهو مرض وعلة، لا يُغتسل من مثل هذا، لكن من ابتلي بمثل هذا لا يسلّم، يعني وان اقتنع من الناحية النظرية إلا أنه في حال من الضعف لا يستطيع معها أن يجاهد وأن يقاوم الشيطان وخواطر الشيطان ووساوسه، حتى بلغ الأمر ببعض النساء أن تضع مسجلاً ثم تكبر: الله أكبر، ثم تسمع هل كبرت أو لا؟ ولا تصدق، وبعضهم قد وكل بعض أهله يسمع قراءته وتكبيره، وكل هذا سمعته بنفسي من السائلين أنفسهم الذين ابتلوا بهذا، لازم يجلس أحد ويسمع هل كبر تكبيرة الإحرام؟، الآن قرأ سورة الفاتحة ومع ذلك لا يقبل، لا أنا لم أكبر، تكبيرتي غير صحيحة!، إذا جاء أحد يسأل مِن هؤلاء تجده يرتعش ويبكي، خائف ويشعر أنه لا يقبل منه شيء؛ ولذلك بعضهم يفكر أن يقتل نفسه ينتحر، ينتهي من هذا العذاب الدائم، وبعضهم يترك الصلاة بالكلية، خلاص هذه الصلاة صارت عذاباً، الصلاة التي كان يقول ﷺ في شأنها: "أرحنا بها يا بلال"، وتنهى عن الفحشاء والمنكر تحولت إلى عذاب - نسأل الله العافية -، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ هذا تنبيه إلى هذا الجانب، بعض الناس قد يتصور عدوا يدعوه إلى الكفر مباشرة، فهو لا يدعو إلى الكفر مباشرة وإنما يبدأ معه بوسوسة بالطهارة إن كان له ميل للعبادة، ويبدأ معه في الأمور المباحة إذا كان له نوع من الميل إلى المباحات والتوسع فيها ثم إلى المشتبه، ثم إلى اللمم والصغائر ثم إلى الكبائر ثم إلى الكفر، ما يأتي مباشرة، حينما نقول: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ترى المخاوف التي يلقيها قلبك هي من الشيطان إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] يعني يخوفكم من أوليائه، يضخم أولياءه ويجعل لهم من المهابة فيجبن الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من الناس بما يتضخم بقلبه من حال هؤلاء، التضخيم هو من الشيطان، وهو من أعظم العوائق التي تمنع الإنسان عن تحصيل المعالي، فما يوجد في قلبه من مخاوف، يخوفه من كذا ويخوفه من كذا، يتوقع كذا يحسب حسابات لكذا إلى آخره كل هذا وهم كبير من الشيطان، هذه تحتاج إلى التنبيه عنها وهي تقرقر في نفسي دائماً كلما أسمع حال هؤلاء التي يُرثى لها، وهذا من الشيطان، ولكن لا يتنبهون إلى أن هذا من الشيطان، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا هذا يقول عندي رهاب اجتماعي، عندي خوف ما أستعجل مع الناس أشعر بارتباك هذا من الشيطان، ما أستطيع أن ألقي كلمة، ما أستطيع أن أصلي بالناس، أصلي وركبي تتحرك، هذا من الشيطان ليثنيك ليقعدك فلا تستجب له، والله المستعان.
وبعض أهل العلم يقول: إنه لا يقيد ليقال هذا، والذي يظهر أنه لا إشكال فيه، ودليله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [سورة الشورى:29] وكل شيء بمشيئته، فالإطلاق أن يقال مثلاً: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا هو الغالب، ولو قال: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا استعمال لا إشكال فيه وهو استعمال صحيح، لكن قدرته على كل شيء على ما شاء وما لم يشأ تعلقت به القدرة يعني لو شاءه كان قادراً عليه، لم يخلق الله إنساناً مثلاً له قلبان مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب:4] لكن لو شاء فهو قدير، فيفهم المعنى أن القدرة لا تتعلق بما تعلقت به المشيئة فقط، لا تنحصر في هذا، وإنما قدرته - تبارك وتعالى - مطلقة: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهذه الممكنات القدرة متعلقة بها قادر أن يخلق أكثر مما خلق، أن يخلق مخلوقاً آخر غير الإنسان والنبات والحيوان والجماد، خلق الناس عدد الناس قادر أن يخلق الضعف مثلاً أليس كذلك؟ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فلا يختص ذلك بما تعلق بالمشيئة، هل هي صحيحة؟ بعض أهل العلم يعترض على مثل هذه العبارة وتجدون مثل هذا في بعض شروح كتب التوحيد، والواقع أنه لا شيء فيها إذا فهم المراد، يختلف ولكن من جهة المعنى هو على جمعهم وإن لم يشأ قدير أو غير قدير؟ هو قدير، فهذا التقييد صار لا إشكال فيه فهنا من هذا الباب وإن كان هذا موضوع، وهذا موضوع لكن هذا فرد من الأفراد التي تعلقت بها القدرة مثلاً، مثال هذا هو الغالب عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وإذا قال: على ما يشاء قدير لا يقال: هذا غلط، والله أعلم.