الإثنين 19 / ذو الحجة / 1446 - 16 / يونيو 2025
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِمَا يَصْنَعُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه.

لاحظ هنا أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فالذي زَين له سوء العمل هو الشيطان كما وعد بذلك، وهذا التزيين يكون تارة بالوعد بالمغفرة وسعة رحمة الله ، وتارة يكون بتزيين الباطل فيكون حسناً في نظر صاحبه وهذا يكون حال انعدام البصيرة فتنعكس المقاييس والموازين في نفس هذا الإنسان وفي نظره فيرى الباطل حقاً ويرى الحق باطلاً وبهذا تفترق الخليقة، وكما ترون في هذا العالم من هذا التباين العجيب فهذا يبذل ماله وجهده وكل ما يستطيع في نشر الباطل والدعوة إليه ومحاربة الفضيلة، وذاك يبذل كل مستطاع في سبيل الدعوة إلى الحق وتحكيم شرع الله في الأرض، وأن يوحد وأن يعبد دونما سواه، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا وهنا لاحظ هذا الاستفهام الذي هو مضمن معنى الإنكار أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا وابن كثير - رحمه الله - يقول: ألك فيه حيلة؟ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ألك فيه حيلة؟ هذا تقدير حسن وهو مناسب للسياق، ويكون في الكلام محذوف يقدر بمثل هذا أو بغيره على قول بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: إن من هذه مبتدأ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، والخبر محذوف، يقدره بعض الأئمة كابن جرير، والكسائي وأمثال هؤلاء يقولون: "ذهبت نفسك عليه حسرات؟" ويقولون: القرينة الدالة على هذا المقدر هي النهي عن ذلك بقوله: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ذهبت نفسك عليه حسرات، يعني ينكر أن يكون كذلك، يعني هذا الذي حصل له طُمست بصيرته فرأى عمله حسناً تذهب نفسك عليه حسرات؟ دعه، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [سورة الكهف:6] مُهلك نفسك إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا فنهاه عن الحزن وأن يهلك نفسه فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8]، وبعضهم يقول كالزجاج: التقدير أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن هداه الله؟، وبعضهم يقول: كمن لم يزين له؟ وهذه ليست بعيدة - هذه التقديرات- ، لكن يفهم أن هناك مقدراً يعلم من السياق، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن لم يكن كذلك فمن يهديه مثلاً؟ أو كمن هداه الله ؟ أو ذهبت نفسك عليه حسرات؟ هذه كلها مقاربة، والله تعالى أعلم.

فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أي: بقدره كان ذلك، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يُضل من يُضل ويهدي من يهدي، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.

قوله تعالى هنا: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، قال: أي لا تأسف على ذلك وهذا تفسير بالمقارب، تفسير بالمعنى، وأصل الحسرة شدة الاغتمام والحزن على ما فات، الحزن الذي ينقطع له القلب؛ لأن أصل هذه المادة يدل على الانقطاع، ومنه قول الشاعر:

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

في وصف الإبل المنقطعة في مرات واسعة، فالإبل كما هو معروف يحصل لها انقطاع مع طول المسير يقال: حَرنتْ، كما قالوا: خلأت القصواء؟ قال: ما خلأت القصواء وما كان لها بخُلُق([1])، خلأت يعني انقطعت من طول المسير كلّت وتعبت وحرنت، هذا معروف في حال الإبل من طول التعب والمسير، حرنت لا تقوم ولو أحرقت بالنار، لو أحرقت بالنار ما تقوم حتى تشاء فإما أن تترك فتموت في مكانها، وإما أن تنحر وإما أن يجلس عندها صاحبها يعلفها، يجمع لها العلف ويأتيها بالماء يتلطف بها ويزيل عنها القراد، ويمسح عليها حتى يطيب خاطرها، بعد أسبوعين أقل أو أكثر الله أعلم متى ما شاءت قامت ولو أحرقت بالنار ما تقوم بالخشب من تحتها والرجال يحملونها وتقع فيتركونها أو ينحرونها.

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

يابسة متقرمشة، يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] فهذه الحسرة شدة الاغتمام والحزن على ما فات ينقطع لها القلب وهذا أمر لاشك أنه يشغل القلب ويضعفه ويضعف قواه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن تتابع الحزن على القلب يثقله ويقعده ويشغله عن ما هو بصدده، فهو غير محمود إلا إن كان من جراء الآخرة، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34] على أحد المعاني فيكون محمولاً على هذا المعنى، أما ما عدا ذلك فإن الأحزان لا خير فيها، أما الرجوع إلى شريط الأحزان في الماضي واجترار ذلك دائماً، وتذكر المواقف الصعبة والأمور المؤلمة فإن هذا ليس من شأن العقلاء؛ لأن ذلك ينقبض له القلب وتضعف قواه فلا ينتفع بشيء، إنما هو الانطلاق وأن ينظر الإنسان إلى ما يستقبل ولا يلتفت إلى ما مضى إلا على سبيل المحاسبة فقط.