الثلاثاء 29 / ذو القعدة / 1446 - 27 / مايو 2025
إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا۟ وَءَاثَٰرَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ فِىٓ إِمَامٍ مُّبِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى أي: يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله - تعالى - يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الحديد:17]".

يعني لاحظ الآن هنا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى قال: أي يوم القيامة يعني الإحياء الحقيقي البعث بعد الموت، وهذا هو الظاهر المتبادر مع أن بعض السلف يقول: المقصود بذلك إحياء قلوب الكفار إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى، وبعضهم يفسر نظائر هذا في القرآن بهذا المعنى كان ميتاً فأحييناه يعني كافراً فهديناه، وهذا بهذه الآية قال به من السلف الحسن البصري والضحاك يعني يحييها من الكفر إلى الإيمان، أو الإيمان بعد الجهل، والضلال، والكفر، ابن كثير - رحمه الله - فسرها على ظاهرها ثم قال: وفيه إشارة إلى أن الله - تعالى - يحيي قلب من يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، فيكون هنا قد جمع بين المعنيين، لكنه جعل المعنى الأول من قبيل الظاهر، والمعنى الثاني من قبيل الإشارة، هذه الإشارة هل هي إشارة القبول عند الأصوليين دلالة الإشارة، إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علم؟

أنواع الدلالة في المنطوق: كلام منطوق، ومفهوم، فأنواع المنطوق: النص، والظاهر، والالتزام، والإيماء والتنبيه، والإشارة، والتضمن، هذه أنواع دلالة المنطوق، دلالة المنطوق: المطابقة، والتضمن، والالتزام، والإيماء، والإشارة، والتنبيه، هل هذا هو المقصود هنا من كلام ابن كثير أو المقصود بالإشارة أن ذلك يشير إلى هذا المعنى من باب كأنه من باب الاعتبار، والشيء بالشيء يذكر، ويقصد هذا المعنى الذي يسمونه التفسير الإشاري، وقد عرف بهذا النوع من تفسير الصوفية - التفسير الإشاري -، وبعضهم يقول: يصح التفسير الإشاري بشروط، ويذكر منها ألا يكون في الكلام ما ينافيه ويعارضه، وأن يكون المعنى صحيحاً، وإلا فيكون التفسير ليس باعتبار أنه المراد من الآية وإنما من باب الشيء بالشيء يذكر ونحو ذلك، والقياس والاعتبار، فهذا - بالشروط هذه - أمثلته المقبولة قليلة جداً، أو نادرة، هذا مثال على ما يقبل من هذا، والقرينة على ذلك لاحظ هنا إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ۝ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هذا كله في مَن مُنع من الهداية، في الضلال يتخبطون إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ۝ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ فذكر إحياء الموتى بعد ذكر الأحوال من الضلال التي يتخبط بها أصحابها، ولا يرون الهدى؛ فيه نوع إشارة، فيه نوع مناسبة، إن إحياء الموتى فيه نوع ملائمة مع المعنى هذا وهو: أن الله يحيي القلوب الميتة فينقلها من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم، لكن المعنى الظاهر المتبادر إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى لاحظ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ من هم؟ هؤلاء الذين يحييهم الله الموتى وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ فهذا ظاهره، فالأمثلة على هذا النوع - أي التفسير الإشاري المقبول - قليلة جداً؛ هذا مثال، وهناك أمثلة أخرى يعني ما يذكرونه مثلاً قوله تعالى: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۝ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:78-79] المراد بالكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون؛ اللوح المحفوظ، وبعضهم يقول: القرآن، ولكن الراجح أنه اللوح المحفوظ؛ لأنه قال: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ والقرآن ليس كذلك، فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون الذين هم الملائكة، إذا فسرت الآية بهذا من أهل العلم من يزيد زيادة، هذه الزيادة هي التفسير الإشاري المقبول، وهي أنهم يقولون: وإذا كان الذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون؛ فينبغي أن يكون هذا الذي في الأرض لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فيدخل في "المطهرون" المؤمن ولا يمسه الكافر، ومن عليه حدث أكبر لا يمس القرآن، ومن عليه حدث أصغر لا يمس القرآن؛ يعني المصحف، مع أن الآية ليست في هذا، لكن يقولون: هذا من باب الاعتبار، إذا كان في السماء لا يمسه إلا المطهرون ففيه إشارة إلى كون هذا الذي بين أيدينا لا يمسه إلا المطهرون، هذا يسمى بالتفسير الإشاري، والناس يستوحشون إذا سمعوا التفسير الصوفي، ويقولون: ما لنا والصوفية، أقول: مَن ذكر من أهل العلم أن التفسير الإشاري يُقبل بشروط يقول: الأمثلة التي تصدق عليه قليلة أو نادرة؛ هذا منها، ومنها ما يذكر في قول النبي ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة[1]، ذكر هذا شيخ الإسلام بنقله عن غيره، يعني يقول: فكذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة، هذا من التفسير الإشاري، هذا أوضح، ولكن التخليط الذي في كلامهم - الألوسي والنيسابوري صاحب غرائب القرآن، ورغائب الفرقان، وأمثال هؤلاء - في نحو قوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [سورة التوبة:123] قال: هي النفس تذبح بسكين الطاعة، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] قالوا: هي النفس لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ قالوا: هذا الصوفي ليس في شرخ الشباب، ولا في سن الهرم والشيخوخة، فيضعف عن العبادة صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69] قالوا: صفرة أصحاب الرياضات النفسية، والمجاهدة، والعبادة؛ ليست صفرة مرض، وهكذا.

"وقوله: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا أي: من الأعمال.

وفي قوله: وَآثَارَهُمْ قولان:

أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثّروها مِن بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر كقوله ﷺ: مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ،ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء[2] رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي ، وفيه قصة مُجْتَابِي الثمار المُضريَّين[3]، ورواه ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله، فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ، وقد رواه مسلم من طريق آخر".

في قوله - تبارك وتعالى -: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير معنى مشهور ذكره كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً، وهو معنى ظاهر في الآية وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ما قدموا: ما عملوه وباشروه من الأعمال صلى، صام، تصدق وما أشبه ذلك، وَآثَارَهُمْ ما تسببوا فيه من القدوة الحسنة، واقتدى الناس بهم، من سن سنة حسنة كما في الحديث فله أجرها، وأجر من عمل بها، فيكون ذلك دالاً على الهدى "من علم آية من كتاب الله فله أجرها ما تليت"[4]، كما قال ابن عباس - ا - كما في الصحيح، فتكون هذه هي الآثار، وتبقى بعدهم، دلوا على هذه، سنوا سنة حسنة ما عمل بها يأتيهم الأجر بعد موتهم، هذا المعنى لا إشكال فيه، ولا غبار عليه، وهنا معنى آخر أيضاً وهو وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ الخُطا التي تكون في الأعمال الصالحة أو السيئة يعني إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ الذي سن سنة سيئة فإنه يجازَى على ذلك فيكون عليه مثل أوزار من تبعه من هؤلاء الذين أضلهم، فهؤلاء دعاة الضلالة بعدما يموتون تأتيهم الأوزار، لأنه قد أقام مؤسسة تنشر الضلال، أقام صحيفة تنشر الضلال، كتب مقالات، ألَّف، كتب، أسس، بدع، أسس مذاهب وفرقاً منحرفة، وهو بعدما يموت هؤلاء الذين يعملون بهذه الطريقة، أو بهذا الضلال؛ يأتيه وزرهم وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] يحمل أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من آثارهم، وفي الهدى نفس الشيء من دل على هدى، المعنى الثاني الخطا التي يمشونها إلى المساجد، إلى مجالس الذكر، والعلم وما أشبه ذلك ذهاباً، وإياباً؛ كل هذا يكتب، وهذا معنى صحيح، وذكر فيه الحديث فيما يتصل في بني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فقال لهم النبي ﷺ: دياركم تكتب آثاركم[5]، وصح عند الترمذي في رواية: أن ذلك هو سبب النزول، مع أن ذلك لا يخلو من إشكال، وقد ذكر القرطبي - رحمه الله - أن هذه السورة مكية بالإجماع، وهذه الواقعة - قصة بني سلمة - كانت في المدينة قطعاً، فكيف نزلت فيهم؟ فبعضهم كان يضعف الرواية أصلاً التي فيها التصريح بسبب النزول، لكن قوله ﷺ: دياركم تكتب آثاركم ثابتة في الصحيحين، والإمام أحمد، وهذه الرواية الثانية التي فيها التصريح عند الترمذي أنها سبب النزول، وبعض أهل العلم يضعفها، ولكن الترمذي حسنها، وصححها الألباني، فإذا صحت هذه الرواية فيكون ذلك من قبيل سبب النزول الصريح، فهل يقال: إنها مستثناة نزلت في المدينة؟ يحتمل هذا، ويحتمل أنها نزلت مرتين، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - لما ذكر مثل هذا قال: ولعل النبي ﷺ ذكرها عندهم يعني عند هذا الموضع - أو هذه المناسبة - ذكر الآية، أو ذكرها جبريل بهذه المناسبة، لا أن الآية نزلت مرتين، يقول: ويمكن أن يحمل على هذا ما يقال فيه أنه نزل مرتين، لكن الذين قالوا الآية تنزل مرتين ولا إشكال يقولون كما يقول الحافظ ابن حجر: إنها قد تنزل، ويتكرر النزول؛ تذكيراً بالحكم الأول، ولبيان أن الحكم الجديد مثل الحكم الأول، أو نحوه يصدق عليه، أو نحو ذلك، فإذا قلنا: إن الأصل كل الآيات مكية فإذا ثبت شيء منها نزل في المدينة فهذا يقال: مستثنى، أو يقال: لعله نزل مرة أخرى تذكيراً بالحكم، أو كما يقول ابن القيم: النبي ﷺ قرأها أنها نزلت، أو قرأها جبريل في هذا المقام على النبي ﷺ، وكانت نازلة عليه قبل ذلك، ولم يكن تنزيلاً جديداً، يعني من الله مباشرة في تلك اللحظة، وإلا فهي نازلة من الله المرة الأولى بلا إشكال.

"وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده[6].

وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ قال: "ما أورثوا من الضلالة".

قال ابن أبي نَجِيح وغيره، عن مجاهد: مَا قَدَّمُوا: أعمالهم، وَآثَارَهُمْ قال: "خطاهم بأرجلهم"".

قول مجاهد: ما أورثوا من الضلالة هذا من باب التفسير بالمثال، يعني ما أورثوا من الضلالة، وأيضاً من الهدى، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً ما ورد في هذا الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. هي داخلة في هذه الآثار قطعاً من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، وهكذا في بعض الأمور الأخرى التي وردت بغيره مثل، أو مصحف ورثه، أو نهر أجراه، أو بيت لابن السبيل بناه، كل هذه الأشياء داخلة فيه، والأوقاف، والمدارس التي ينشئها.

"وكذا قال الحسن وقتادة: وَآثَارَهُمْ يعني: خطاهم، قال قتادة: لو كان الله - تعالى - مُغفلاً شيئًا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله، أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله فليفعل".

الذي يُكتب هو الممشى الذهاب، والمرجع، ولا يقطعون وادياً فهذه كلها تكتب، والرجل الذي قيل له: لو اتخذتَ حماراً يعني تركبه للذهاب إلى المسجد، فذكر للنبي ﷺ أنه يحتسب ممشاه حينما يمشي إلى المسجد، ورجوعه حينما يرجع؛ فقال النبي ﷺ: كل ذلك قد كُتب لك أو كما قال النبي ﷺ، فدل على أن الرجوع من الطاعات من القربات يكتب.

"روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم[7]، وهكذا رواه مسلم عن جابر .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: توفي رجل بالمدينة، فصلى عليه النبي ﷺ وقال: يا ليته مات في غير مولده فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: إن الرجل إذا توفي في غير مولده قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة[8]، ورواه النسائي وابن ماجه.

وروى ابن جرير عن ثابت قال: "مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال: يا أنس! أما شعرتَ أن الآثار تكتب؟ أما شعرتَ أن الآثار تكتب؟".

وهذا القول لا تنافِيَ بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى، والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير، أو شر؛ بطريق الأولى - والله أعلم -".

يعني هنا جمع بين القولين، فإذا كان كل قول تدل عليه أدلة، القول الأول، والقول الثاني الذي عليه الأدلة، ولا يوجد ما يمنع من حمل الآية على المعنيين تحمل عليهما لاسيما إن كان بينهما ملازمة، كأن يكون مثلاً أحد المعنيين يلزم منه الثاني، يقتضي القول الآخر كما هنا؛ فهذا مما يقال فيه: إن الآية تحمل على هذا وهذا، وهذا هو الأقرب، وإن كان ابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على كتابة الآثار التي هي بمعنى الخطا، وسبقه إلى هذا جماعة من السلف، واختاره النحاس، وهنا في الحديث أثر ثابت عن أنس: أخذ بيدي، لما أسرع أنس المشي، قد يقول قائل: إن النتيجة واحدة سواء كان قد أسرع أو لا هي الخطا، يمشي على قدميه أسرع أو لم يسرع، ولكنه يمكن أن يقال: إن الإسراع يكون فيه تباعد بالخطا، بخلاف الذي يمشي رويداً تتقارب خطاه، وليس معنى ذلك أنه إذا مشى إلى المسجد يمشي مشياً متماوتاً حتى يكتب له، يعني يلصق الخطوة بالخطوة، لا يتكلف هذا، إنما يمشي مشية مترسلة كما قال الله : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63] مشية معتدلة، بسكينة، ووقار كما أمر النبي ﷺ، أما قوله - تبارك وتعالى -: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9] فقد مضى الكلام عليه عند تفسير هذه الآية وهو أن المراد العمل على حضورها كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيره، وليس المقصود الإسراع بالمشي؛ لأن النبي ﷺ نهى عنه فأتوها وأنتم تمشون[9] لا تعارض.

"وقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب؛ قاله مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم".

يعني الإمام المبين أم الكتاب اللوح المحفوظ وهذا اختيار ابن جرير، وابن القيم، والشنقيطي، وهذا هو الظاهر - والله تعالى أعلم - فالإمام المبين اللوح المحفوظ، وبعض أهل العلم يقول: المقصود به هنا صحائف الأعمال، أنها تكتب فيها أعمال العباد.

"وكذا في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [سورة الإسراء:71] أي: بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما عملوه من خير وشر".

هذا غير الإمام المبين الذي في سورة يس هناك اللوح المحفوظ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، هنا نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فيها أقوال، ومنها أن المقصود كتاب الأعمال بقرينة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ.

"كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [سورة الزمر:69]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].

هذه صحائف الأعمال، كُتب الأعمال وليس اللوح المحفوظ، والذي في الآية هنا هو اللوح المحفوظ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ فأعمال العباد مكتوبة في اللوح المحفوظ، كما أنها تكتب في الصحف التي بأيدي الملائكة، وهذا المراد بقوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وقال الله - تعالى -: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6].

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3225)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2106).
  2. رواه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
  3. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، برقم (1017).
  4. رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، (8/224)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5704).
  5. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (665).
  6. رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب في الوقف، برقم (1376)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (2494)، وابن حبان في صحيحه، برقم (3016)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (793).
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (14566)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، برقم (665).
  8. رواه النسائي، كتاب الزكاة، باب الموت بغير مولده، برقم (1832)، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات غريبا، برقم (1614)، وأحمد في المسند، برقم (6656)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1616).
  9. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).