"وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [يس: 13-17].
يقول تعالى: واضرب - يا محمد - لقومك الذين كذبوك مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13] قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه: إنها مدينة أنطاكية، وكان بها ملك يقال له: أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم: صادق، وصدوق، وشلوم، فكذبهم.
وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة، والزهري: أنها أنطاكية".
قوله - تبارك وتعالى -: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13] هنا جاء ضرب المثل في ذكر خبر هؤلاء القوم، وما وقع لهم مع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وقد مضى الكلام في الأمثال، وبيَّنا أن الأمثال تطلق بإطلاق واسع عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على خلاف ما يتناقله أهل العلم في المراد بالمثل في القرآن، فهو يقول بأن ذلك يشمل القصص المذكورة في القرآن، وهذا يشهد لذلك؛ إذ إن عامة أهل العلم من المفسرين وغيرهم يعبرون عن المثل فيقولون: إنه ما يصور به المعنى المعقول بصورة حسية تقريباً للأفهام، أو ما يعبرون به مما يقرب من ذلك، وهذا يصدق على بعض الأمثال، وربما يصدق على الأمثال الواضحة في القرآن التي لربما يُدرِك أنها مثلٌ أكثرُ الناس كقوله - تبارك وتعالى -: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [البقرة:17] فهذا قرّب فيه المعنى المعقول بصورة محسوسة، لكن قصص الأنبياء، قصص الأمم، أخبار الغابرين؛ هل هذه من الأمثال؟ شيخ الإسلام يقول: نعم، هي من الأمثال، والله قال عنها ذلك: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13] وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32].
فشيخ الإسلام - رحمه الله - يرى أن المثل يرجع إلى معنى الشبه، وأن ذلك إنما يكون فيما يحصل به الاعتبار، لما يحصل به الاعتبار، بالنظر إلى أحوال هؤلاء، وما جرى لهم سواء من إدالة الرسل وأتباعهم على أقوامهم، أو مما وقع لهؤلاء الأقوام من العذاب ونحو هذا، فيرجع الناس إلى أنفسهم؛ لأن الله لم يذكر هذه القصص للتسلية .
هنا قال: إن ذلك يراد به مدينة أنطاكية، واسم هذا الملك، وهؤلاء الرسل، ولم يثبت عن النبي ﷺ، ومثل هذه الأشياء إنما نقبلها، ونصدقها، ونعتقد بموجبها، ومقتضاها؛ إذا كان ذلك عن المعصوم ﷺ بإسناد صحيح، وهذا غير موجود، وهذه الروايات كأنها مما تلقي من بني إسرائيل، والموقف من الإسرائيليات معروف، وإذا تتبعت الروايات الواردة في هذا تجد أنها مختلفة كثيراً في أسماء هؤلاء الذين أرسلوا، واسم ذلك الملك، وكذلك أيضاً في حقيقة هؤلاء، وفي أي زمان، هل كانوا من الرسل الذين أرسلهم الله ؟ أو ممن أرسلهم المسيح - عليه الصلاة والسلام - من الحواريين؟ هذا كله يدل على أن المرجع إلى أخبار بني إسرائيل، وهي أخبار لا يوثق بها، مع أن القول بأن المراد بذلك أنطاكية قال به جماعة من أهل العلم، منهم: بريدة وعكرمة، وقتادة والزهري، بل عزاه القرطبي إلى جميع المفسرين، والواقع أن ثمّة من خالف في هذا، أن هناك من خالف في المراد، وإن كان عامة المفسرين يقولون: أنطاكية، لكنه يرِد على هذا ما سيذكره ابن كثير - رحمه الله - من الإشكال، حاصله أن أنطاكية كانت من أول من آمن بالمسيح - عليه الصلاة والسلام -، هذا على القول بأن عيسى ﷺ أَرسل إليهم من الحواريين، أو على القول بأن هؤلاء الرسل كانوا بعد عيسى ﷺ، وأن الله أرسلهم؛ لأن هناك من يقول بأنه أرسل بعد عيسى ﷺ بعض الرسل، ولا يثبت شيء من ذلك، وكذلك أيضاً الإشكال الذي أورده ابن كثير - رحمه الله - يرجع إلى أن أهل أنطاكية لا يُعرف أنهم عذبوا عذاباً كهذا مستأصلاً، والإشكال الثالث الذي أورده - وكلها إشكالات قوية - أن أهل العلم يقولون: إنه لم يرد عذاب مستأصل بعد نزول التوراة، وإنما يكون ذلك بالقتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فيعذبون بأيديهم، ويحصل لهم من القتل، والأسر وما أشبه ذلك، أما العقوبات المستأصلة فكانت قبل نزول التوراة.