"وقوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ في معنى قوله: لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قولان:
أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكُرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة".
العرش هو سقف العالم كما يقول النبي ﷺ: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، قال: وسقفه عرش الرحمن[1]، العرش كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إنه كالقبة، وهو سقف العالم، نعم سقف العالم تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا أي: تسجد تحت العرش، فهذا القول يؤيده ما صح عن رسول الله ﷺ في هذا المعنى، فلا يصح العدول عنه، وإن كانت الآية في ظاهرها تحتمل القول الآخر، تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا هذا المستقر هل المقصود به أنه ما قدره الله - تبارك وتعالى - لها في جريها؛ حتى إذا أراد الله - تبارك وتعالى - تغيرت هذه الأفلاك، وتحول حال العالم، فكورت الشمس يوم القيامة، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [سورة القيامة:9] كما قال الله - تبارك وتعالى -؟، فبعضهم يقول: هو هذا تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا يعني يوم القيامة حيث تتحول وتتغير، وبعضهم يقول: تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا هو جريان الشمس في الفلك بحسب حسابٍ دقيقٍ قدَّره الله لها لا تتجاوز ذلك، هذه الأقوال تحتمل؛ لكن هل هي المراد بالآية؟ إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فإذا صح عن رسول الله ﷺ شيئاً من ذلك فإنه لا يصح العدول عنه اللهم إلا أنه في بعض المواضع تكون الآية تحتمل هذا وتحتمل غيره، وتوجد أدلة تدل على غيره أيضاً، فيكون النبي ﷺ فسرها ببعض المعنى، لكن من عمومها يؤخذ منها، أو من سياقها أو نحو ذلك أنها تدل على القول الآخر، لكن لا يصح أن يُرجَّح قول آخر على شيء ثبت عن رسول الله ﷺ بيانه، وتفسيره.
"وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون من العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع؛ كما جاءت بذلك الأحاديث".
يعني إذا كانت في كبد السماء هي أعلى ما تكون فوقنا، وقبل ذلك تكون في أقصى المشرق، بعدها تكون في أقصى المغرب، رابعاً حينما تكون مقابلة في منتصف الليل حيث يكون منتهى الظلام؛ تكون في الجهة الأخرى.
هذا أوضح ما يكون من التفسير النبوي، والتفسير النبوي على نوعين:
النوع الأول: ما تطرق فيه النبي ﷺ لنفس الآية، فهذا لا يصح العدول عنه بحال من الأحوال، وإذا صح إسناده لا يمكن أن يتطرق إليه الخطأ، حاشا وكلا، النبي ﷺ أعلم الناس بكتاب الله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [سورة النجم:3].
أما النوع الثاني: ما يذكره النبي ﷺ من المعاني، والهدايات وما إلى ذلك دون أن يتعرض للآية، فيأتي بعض المفسرين يفهم أن الحديث مرتبط بالآية الفلانية، وأنه يصح أن يكون تفسيراً لها، فيقوم المفسر ويربط بين الحديث والآية اجتهاداً، لاحظ: الكلمة هذه مهمة - اجتهاداً منه -، ولهذا حينما نقول: هل يدخل الاجتهاد في التفسير النبوي؟ بعض الناس ينقبض من هذه الكلمة، كيف يدخل الاجتهاد في التفسير النبوي؟ نقول ليس المقصود اجتهاد النبي ﷺ فكلامه وحي - عليه الصلاة والسلام -، ولكن اجتهاد المفسر فيما لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية، فيعمد المفسر للربط بين الآية وذاك الحديث، فقد يخطئ المفسر وقد يصيب في هذه الحالة، فهنا نقول هذا النوع ليس بقاطع التفسير، تفسير السنة نوعان، الذي صرح فيه بالآية مثل هذا المثال الذي أمامنا هو من أجلى الأمثلة، فهذا لا يصح العدول عنه، ولا ترِد عليه الواردات؛ يعني يقول الإنسان: الشمس مثلاً تجري تظهر على الآخرين فهي بالنسبة لهم نهار إلى منتصف الليل عندنا، فكيف تذهب وتسجد تحت العرش؟، نقول: هذه الأمور الغيبية خالقها أخبرنا عن طريق رسوله ﷺ وهذا الحديث في الصحيح أنها تسجد تحت العرش، إذاً فهي تسجد تحت العرش، والذي خلقها أخبرنا بهذا، وعقولنا قاصرة، هذا الذي أدركته عقولنا أصلاً، وإذا كان أهل الفلك إلى الآن يزعمون أنهم يكتشفون مجرات وليست مجرد نجوم أو كواكب، مجرات، يكتشفون مجرات جديدة، ويعترفون أن ما يعرفونه، ووصلوا إليه، وأدركوه؛ في هذا الكون أنه قطرة من بحر أنه قليل جداً، وضئيل بالنسبة لسعة الكون، هذا كله في السماء الدنيا أو دون السماء الدنيا، لكنهم لا يعرفون شيئاً عن السماء الدنيا التي هي سقف وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32]، إلى الآن علوم هؤلاء لا تثبت أن السماء سقف، ولا يعرفون هذا، ولا وصلوا إليه، ولا يستطيعون الوصول إليه؛ لأن هذا أبعد من إمكاناتهم، هذا لا يمكن أن يعرفه هؤلاء بالتلسكوب؛ لأنه لا يصل إلى السماء، فما بالك بالسماء الثانية! هذا محال، والثالثة، والرابعة إلى السابعة! فما بالك بعرش الرحمن!، فمثل هذه الأمور من كون الشمس تسجد تحت العرش هذا لا مدخل للعقل فيه، فهي تسجد تحت العرش، انتهينا، فما يرِد على الإنسان مثل هذه النصوص، والقضايا؛ التي يولدها العقل أحياناً فترد الواردات، لكن الذي خلقها أخبرنا بهذا، فهذا هو حقيقة التسليم، قد تقول: أنا لا أدرك هذا؛ لأن هذا غير داخل تحت نطاق العقل مما يدركه بمداركه العادية، إنما هذا يتلقى من الوحي فقط، فيجب الإذعان، والتسليم له، وهذا له نظائر كثيرة مما يدركه العقل، ولهذا قالوا: إن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يأتون بمحارات العقول، ولكنهم لا يأتون بمحالات العقول، يأتون بأشياء يتوقف العقل فيها، ولكن لا يأتون بشيء مستحيل، فهي تسجد تحت العرش، وتستأذن ربها، وستطلع في يوم من الأيام - حيث تحبس - من مغربها؛ لأن هذا كلام من لا ينطق عن الهوى، ليست نظريات، وهناك أشياء مما يقوله أصحاب الفلك، أو أصحاب العلوم المتنوعة، وبعض هذا يقولون عنه: إنه حقائق، ومع ذلك تتوقف فيه العقول، فالإنسان إذا أراد أن ينظر على قولهم بأن الأرض تدور، أنا لا أريد أن أتعرض إلى مسألة الدوران إطلاقاً، وإنما أقول: على قولهم هذا هم يتفقون على أن الأرض تدور، عن المعاصرين من أهل الفلك أنهم يقولون: إنها تدور، معنى ذلك أن هناك أناساً في الأسفل رؤوسهم مقلوبة، وأوضاعهم مقلوبة؛ هذا مقتضاه! ومع هذا لا يشعرون أنهم مقلوبون؛ لأن الناس حينما يسمعون الكلام هم يثقون بأهل الفلك، وبهذه القوانين، والنظريات؛ فيسلمون لها - وإن لم تدركه عقولهم -، هذا هو الواقع وإلا فتصور كيف نحن الآن في الجهة المقلوبة ونحن نرى السماء فوقنا، ولا يشعر أحد أبداً أنه في الجهة الأخرى، وقل مثل هذا في أشياء يتكلمون عنها ويقولون: هذا لو حصل معه مدة أو إلى آخره لكانت مثلاً خيطاً يمكن أن يصل إلى الطرف الآخر أو يحيط بالكرة الأرضية شي يسير، ويقولون هذا يمكن أن يُمثَّل أو يقولون: هذا يصل إلى القمر، هناك أشياء يذكرونها عن أبعاد وأشياء معينة مما يراه الإنسان ويزاوله، أحياناً يقولون: لو مد الشيء الفلاني لكوّن خطاً يدور على الكرة الأرضية كاملة، وهذا لو مد وصل إلى القمر؛ تراه صغيراً، ويمكن أن يصل إلى القمر؛ هذا ما يمكن أن يصل خمسين متراً! وتجد الناس يقبلون هذا، ويسلمون له مع أن العقول لا تتصوره؛ لثقتهم بهؤلاء؛ فيقبلون، ويسلمون، فإذا جاء كلام الله فينبغي أن يكون التسليم أعظم من كلام هؤلاء الذي يصيب، ويخطئ؛ وإلا ففيه أشياء يتوقف فيها العقل.
وكذلك المسيح الدجال موجود، والأقمار الصناعية تصور العالم، وما تركوا شبراً إلا وصلوا إليه بزعمهم؛ فأين المسيح الدجال؟ أين هو؟ ومن يقوم على خدمته؟ وكيف يأكل؟ وكيف يشرب؟ وهل يهرم أو لا؟ طول هذه المدة يتغير أو يتوقف العمر مثلاً؟ نقول هذا ما يرِد، هذه قضايا غيبية، وإذا جاء المسيح الدجال ما يأتي بصورة إنسان كبير هرم، عمره أكثر من ألف سنة، ما ندري متى ولد! هذه قضايا أرادها الله، فبنو إسرائيل - ومعهم هارون وموسى عليهم السلام - تاهوا في أرض صحراء محدودة لو ساروا من أي اتجاه لقطعوها، فبقوا فيها نحو أربعين سنة على قولٍ هنا في الآية: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] يكون مدة التيه أربعين سنة، أناس (قوم) عددهم في بعض التقديرات ستمائة ألف، فيهم أهل خبرة، وفيهم أهل معرفة، وهذه المناطق يعرفونها صلة بين بلاد الشام ومصر، مطروقة، ومع ذلك يضيعون فيها أربعين سنة لا يستطيعون تجاوزها، لو مشوا أربعين ساعة لوصلوا إلى أحد النواحي والأطراف فيها من أي اتجاه فكيف يضيعون أربعين سنة؟ نقول: الله أراد أن يضيعوا أربعين سنة، إذاً سيضيعون أربعين سنة حتى جاء في بعض الآثار أنهم يمشون اليوم كاملاً؛ فإذا باتوا أصبحوا فوجدوا أنفسهم في المكان الأول؛ لأن الله أراد هذا، فإذا أراد شيئاً لا بد أن يكون فهذا مقتضى التسليم، والله يبتلي العقول بأشياء ليختبر إيمانها، وتسليمها؛ فما كل شيء تدرك العقول حقيقته، وتدرك حكمته، فبعض الأشياء يستشكل الإنسان الحكمة منها، فيقال له: أنت لا تعلم الحكمة، لكن الله حكيم، فهناك حِكم عظيمة جداً ولكن ليس بالضرورة أن الملك الأعظم إذا اقتضت حكمته شيئاً أن ذلك يتوقف على إعلامنا، وإفهامنا، فمن نحن؟ وإذا كان ملوك أهل الأرض لا يلزم من كل مرسوم يرسلونه أن يخبروا الأفراد والناس بخلفيات هذا القرار، والحِكم، والغايات التي من أجلها سُن هذا القرار، فلا يخبرونهم، ويقولون: هناك ملابسات معينة، وأشياء، والحكمة هي كذا وكذا، هذا في الدنيا، فالله أعظم، وأجل شأناً من ذلك، هذه قضية مهمة في التسليم، والإذعان، والقبول عن الله - تبارك وتعالى -.
"وأيضاً عن أبي ذر قال: سألت رسول الله ﷺ عن قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، قال: مستقرها تحت العرش[3].
والقول الثاني: أن المراد بمستقرها هو: منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكوّر، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني".
يعني على الأول يكون المستقر مكانياً تحت العرش، وهذا مستقر زماني، وهذا القول لا يمكن جمعه مع الحديث، فلا نقول: هذا وهذا، فهذا اختلاف تضاد لا تجمع فيه الأقوال هو سجودها تحت العرش إذاً ليس المراد منتهى حركة الشمس، سير الشمس إلى يوم القيامة.
"قال قتادة: لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا أي: "لوقتها، ولأجل لا تعدوه".
وقيل: المراد: أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها، يروى هذا عن عبد الله بن عمرو.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لا مُسْتَقَرَّ لَهَا أي: لا قرار لها، ولا سكون.
يعني أنها دائبة الحركة، لكن هذه القراءة هل تفسر القراءة المتواترة تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا؟ لا تفسرها، لا تفسرها لحديث السجود تحت العرش، لا تفسرها، هذا إذا صحت هذه القراءة من جهة الإسناد، هذا يحتاج إلى مراجعة هل ثبتت هذه القراءة من جهة الإسناد؛ فهي ليست متواترة.
"بل هي سائرة ليلاً ونهارًا، لا تفتر ولا تقف كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ [سورة إبراهيم:33] أي: لا يفتران، ولا يقفان إلى يوم القيامة.
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي: الذي لا يُخالَف، ولا يُمانَع، الْعَلِيم بجميع الحركات، والسكنات، وقد قدر ذلك، وقَنّنه على منوال لا اختلاف فيه، ولا تعاكس كما قال تعالى: فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96]، وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة فصلت:12]".
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي، برقم (2790).
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، برقم (3199).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ [يس:38]، برقم (4803).