الثلاثاء 05 / محرّم / 1447 - 01 / يوليو 2025
ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰٓ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت".

يعني قال الله - تعالى -: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ فجعل الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد، فبعضهم يقول: هذا في وصف ما وقع في الأيدي أو الأرجل باعتبار أن الأيدي تباشر عادة - يعني غالباً تكون المباشرة باليد -؛ ولهذا يعبر بها يقال: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مع أنهم قد يكسبون سيئات بغير الأيدي بالعين، أو بالفم، أو بالمشي بالرجل أو غير ذلك، لكن لما كان ذلك هو الغالب عبَّر به قال: بما كسبت يداه، بما كسبت يداك، لما كانت الأيدي هي التي تباشر صارت هي التي تنطق، والأرجل لما كانت حاضرة كانت شاهدة، هكذا قال بعض أهل العلم في وجه التفريق بين ما يصدر من الأيدي في الصفة، وما يكون من الأرجل، والأيدي حينما تتكلم فتلك شهادة، والأرجل حينما تشهد فإن الله ينطقها فتكون شاهدة بذلك، فيكون أحد المعنيين، والله - تبارك وتعالى - قال عن الكفار الذين قالوا بأن الملائكة بنات الله قال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19] فهذه الدعوى من أن الملائكة بنات الله سماها الله شهادة، "ستكتب شهادتهم"، وابن القيم - رحمه الله - تكلم على هذا المعنى في بعض كتبه، والكلام على الشهادة؛ ونحو ذلك فيما نقله صاحب الطحاوية الواقع أنه كلام الحافظ ابن القيم في هذا المعني في الكلام على الشهادة، والأرجل تشهد، وكلام الأيدي يعتبر شهادة، وهكذا حينما ينطق فخذه، وسائر جوارحه؛ فتلك شهادة عليه وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة فصلت:21]، لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا فهي نطقت، فهذا النطق شهادة أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ فالأرجل تنطق، وذلك شهادة.

"روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدرون مم أضحك؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليّ إلا شاهدًا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل[1]، وقد رواه مسلم والنسائي.

وروى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري : يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرِضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت، قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها، قال: فما على الأرض خَليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرِضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد ويقول: أي رب، وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملَك ما لم أعمل، فيقول له الملَك: أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه، فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه، قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"[2].

فالألسن تشهد عليهم فهل بين هذه وما ذكر هنا منافاة؟، في سورة النور ذكر الله شهادة الألسن أليس كذلك؟ القذفة، وذكر هنا أنه يختم على الأفواه، فالحاصل هل بينهم منافاة؟، يمكن أن يكون هذا في موقف، وهذا موقف، قاله بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: إنه حينما ينكر يختم على فيه فتنطق جوارحه، فإذا أسقط في يده، وشهدت جوارحه بناء على ما جاء في هذه الأحاديث أنه ينكر، ثم يكون الشاهد عليه من نفسه؛ فإذا أسقط في يده، وقال من قال: فعنكنَّ كنتُ أناضل؛ فعند ذلك ينطق فوه.

  1. رواه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (11653)، والحاكم في المستدرك، برقم (8778)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
  2. تفسير ابن أبي حاتم (10/3271)، برقم (18455)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، ط3، سنة النشر: 1419هـ.