هذا الكلام المنقول هنا يدور على معنيين الأول: لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ طمس على الأعين بمعنى أنه يذهب محل العين وليس العمى فقط، وإن فسر بالعمى فإن هذا تفسير له ببعض معناه، فإنه إذا ذهب محل العين طمست لا شك أنه يكون في حال من العمى أبلغ من مجرد ذهاب نور العين، فهنا هذا معنى، معنى أنا أعميناهم فصاروا لا يبصرون الطريق، والمعنى الثاني: لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ طمسنا على أعينهم بمعنى عمى البصيرة وليس عمى العين، أضللناهم فأنى لهم الهدى بعد هذا الإضلال؟، هذان معنيان يرجع إليهما جميع ما ذكر، وهنا قال: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مَرّة: أعميناهم، يعني عمى العين، وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون، يعني الطريق الذي يريدون سلوكه الطريق الحسي وليس طريق الهدى، وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ يعني: الطريق، طريق الصراط، الطريق الذي يكون فيه استقامة، أو يكون مستقيماً، ما يقال له صراط، وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وقد طمسنا على أعينهم؟ ابن جرير - رحمه الله - اختار هنا أن المقصود طمس الأعين بمعنى العمى بذهاب موضع العين بالكلية، ورد القول بأن المقصود عمى البصيرة، وأنهم لا يهتدون إلى الحق؛ وذلك لأنهم كفار لا بصائر لهم، فكيف يقول الله - تبارك وتعالى -: ولو نشاء لطمسنا على بصائرهم فلا يعرفون الحق، ولا يهتدون إليه، ولا يسلكونه، فهم بمنأى عنه أصلاً، هذا وجه ترجيح ابن جرير، فالسلف لهم قولان فيها، فالله - تبارك وتعالى - يذكر قدرته عليهم، وأنه لو شاء لفعل بهم هذا، وهذا كما ترون له وجه لهذه القرينة أنهم كفار قد طمست بصائرهم فكيف يقال: لطمسنا بصائرهم عن الحق فلا يهتدون إليه؟ هم كذلك أصلاً، هذا الذي حصل لهم فلا بد أن تكون الآية تضيف معنى آخر جديداً - والله أعلم -، لا، هو الكلام على الدنيا هنا، الله لو يشاء لطمس على أعينهم في الدنيا، يذكر قدرته عليهم هذا في مقام الحساب في الآخرة لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ، وقبلها الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ هذا في الآخرة قطعاً قولاً واحداً، والواو في وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا لو نشاء ليست في الآخرة، وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ هل المقصود الصراط الذي يكون على جسر جهنم؟ ليس هذا المقصود، وما رأيت قائلاً بذلك من السلف، ومعلوم أن الكفار لا نور لهم يوم القيامة أصلاً، وأن المنافقين يكون لهم شيء من هذا في أول الأمر، ثم بعد ذلك ينطمس، ويذهب نورهم، لكن هل الكفار أصلاً على الصراط، أو أنهم يسحبون إلى النار مباشرة، ويكبكبون فيها، الكفار هل يمرون على الصراط؟ قال الله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور:13] فدلت ظواهر النصوص على أن الكفار يكبكبون فيها، ويُدَعّون فيها، ويسحبون مُقَرّنين، يربط بعضهم ببعض؛ فيلقون فيها كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [سورة الملك:8] بخلاف الذين يمرون على الصراط فيتساقطون، والكلابيب تخطف من تخطف، فأما الكفار فيُقرّنون، ويبقون فيها مجموعات - نسأل الله العافية -، فهما معنيان: طمس البصائر فلا تبصر الحق، أو طمس الأعين، ومن ثَمَّ يبقى الإنسان لا يبصر الطريق الذي يريد أن يسلكه في الدنيا، فيذكر قدرته عليهم، وكلام ابن جرير له وجه: أن هؤلاء مطموسة بصائرهم فكيف يقول الله : وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ؟