"وقوله: وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم قال العوفي عن ابن عباس: "أهلكناهم"، وقال السدي: "يعني: لَغَيَّرنا خَلْقَهم"، وقال أبو صالح: "لجعلناهم حجارة"، وقال الحسن البصري وقتادة: "لأقعدهم على أرجلهم"، ولهذا قال تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا أي: إلى أمام، وَلا يَرْجِعُونَ أي: إلى وراء، بل يلزمون حالاً واحدًا، لا يتقدمون، ولا يتأخرون.
كلام السلف أن ذلك في الدنيا كالذي قبله وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم يعني ما روي عن ابن عباس - ا -: "أهلكناهم"، السدي: "يعني لغيرنا خلقهم"، أبو صالح: "لجعلناهم حجارة"؛ هذا يرجع إلى ما قبله، الحسن وقتادة: "لأقعدهم على أرجلهم"، وهذا يرجع إلى ما قبله من تغيير خلقهم، وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم المكانة هي المكان، لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم يعني في أماكنهم، أي أن الله - تبارك وتعالى - يبدل خلقهم على المكان الذي هم فيه أو الذي فعلوا فيه المعصية كما يقول بعضهم، فهذا كله في الدنيا لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم في موضعه الذي هو فيه غيّر الله - تبارك وتعالى - خلقه الأول، أنه يطمس على أبصارهم لو شاء فيذهب موضع العين فلا يبصر طريقاً يسلكه، كما أنه - تبارك وتعالى - لو شاء لغير خلقهم فهو عليهم قادر لا يفوتونه، مع أن بعض المفسرين - وأعني بذلك يحيى بن سلام المتوفى سنة مائتين للهجرة - له تفسير موجود بعض أجزائه إلى اليوم، وهو الذي اختصره ابن أبي زمنين في التفسير المطبوع في ثلاث مجلدات، هو اختصار لتفسير يحيى بن سلام، وهو الذي اختصره أيضاً الهواري من الخوارج وهو مطبوع أيضاً في ثلاث مجلدات، هذه مختصرات، لكن الهواري لما كان من الخوارج حذف النصوص التي لا تخدم مذهبه، وأضاف بعض الإضافات، وتفسير يحيى بن سلام تارة ذهب إلى أن ذلك جميعاً في الآخرة يعني حتى قوله: لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ أن ذلك في الآخرة وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا هم كما قلت: لا يذهبون إلى الصراط، فهذا قال به يحيى، والمناسبة أن يحيى بن سلام بتفسيره هذا مثل ابن جرير، يعني يذكر الآثار، ويذكر من عنده تفسيراً، وترجيحاً، وإعراباً وما إلى ذلك، يعني خلاف الذي يتداوله الناس عادة الذين يكتبون في مناهج المفسرين، ويقولون: كان التأليف من كتب التفسير بذكر الآثار في التفاسير المعروفة من أبي حاتم، وعبد الرزاق، وابن المنذر ،وابن حميد، وأمثال هؤلاء دون خلط ذلك بشيء آخر، وابن جرير هو الذي جاء بهذه الطريقة أولاً يذكر الآثار، ويذكر تفسيراً يوجه به، يعني غير الآثار يعلق ويناقش، والواقع أن ابن جرير - رحمه الله - مسبوق لهذا، فابن جرير متوفى سنة ثلاثمائة وعشرة، ويحيى بن سلام متوفى سنة مائتين للهجرة، وتفسيره موجود لكن ناقص بعض الأجزاء، ومختصراته موجودة، وكثير من الأشياء هذه تجدونها تتكرر في مناهج المفسرين، وأصول التفسير، وعلوم القرآن تحتاج إلى شيء من التمحيص، والتحرير، وينقل الناس بعضهم عن بعض غالباً، لكن تفسير يحيى بن سلام يذكر الآثار، لكن لا يقارن بتفسير ابن جرير بوجه من الوجوه، لا بكثرة الآثار، فيحيى بن سلام تارة يذكر آثاره مسندة، وتارة من غير إسناد مخلوطة بكلامه، وابن جرير يذكر الأقوال ثم يقول: ذِكْر من قال بذلك؛ ثم يسرد الآثار، ثم ذِكْر من قال بكذا، ثم يسرد الآثار، ثم ذِكْر كل قول، ويسرد الآثار ثم يقول: قال أبو جعفر فيبدأ يرجح، ويناقش، ويؤصل، ويقعّد، فلا مقارنة من جهة الآثار من ناحية الكثرة، ولا من ناحية الإسناد، ولا من جهة المعاني التي يذكرها، والترجيحات، والتأصيل الذي في تفسير ابن جرير، فلا وجه للمقارنة بين التفسيرين، وتفسير ابن جرير - رحمه الله - مليء بالعلم من الناحيتين: ناحية الآثار التي يوردها، ومن ناحية المعاني التي يقررها هو، وطرائق الترجيح، والأصول التي يذكرها في ثنايا ذلك، ويبني عليها هذه الترجيحات، ليس له نظير إطلاقاً، بل هذا الكتاب الذي بين أيدينا - تفسير ابن كثير - لا يقارن بينه وبين تفسير ابن سلام بوجه من الوجوه، هذا أنفع وأفضل بمراحل، ذكرت هذا لئلا يُظَن أن هناك ما يضاهي تفسير ابن جرير؛ لأنه يجمع بين هذا وهذا من المتقدمين، لكن المقصود واضح أن ابن جرير لم يكن ابتدأ هذه الطريقة فقط، وكلام الحسن وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم، قالوا: ولهذا قال تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا أي: إلى أمام، وَلا يَرْجِعُونَ أي: إلى وراء، يعني بدلاً من أن تكون الأرجل الآلة التي ينتقل عليها يذهب، ويجيء؛ تكون الأرجل هي محل القعود، أقعدهم على أرجلهم، طيب يمشي على ماذا؟ كيف ينتقل إلى الأمام ويرجع إلى الوراء إلى آخره إذا كانت الأرجل هي التي يجلس عليها؟! واضح؟ هي آلة القعود، واضح المعنى؟ هذا بمعنى قول من قال: غيّرنا خلقهم، كيف يكون التغيير؟