الثلاثاء 05 / محرّم / 1447 - 01 / يوليو 2025
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ۝ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ۝ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة يس:68-70] يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رُدّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط".

يعني في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ ننكسه هذه القراءة التي نقرأ بها قراءة عاصم وحمزة، وقراءة الجمهور نُنْكِِسه في الخلق المعنى واحد، ولكن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، يعني أن القراءة بالتشديد تدل على التكثير، وهنا قال: يخبر عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رُدّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط نُنَكِّسْهُ يعني على عكس ما خلقناه عليه من قبل، كيف كانت بدايته؟ من الضعف إلى القوة؛ فيصل إلى مرحلة يكون منتهى القوة، بعضهم يقول: إذا بلغ الأربعين هذا منتهى القوة، وهذا هو المشهور عند أهل العلم، ثم بعد ذلك يتماسك بعض الوقت، ثم يبدأ يتدرج بالضعف نُنَكِّسْهُ فالشنقيطي - رحمه الله - يذكر هذا الملحظ في التنكيس، ننكسه بدلاً من أن كان الصعود من الضعف إلى القوة - تدرج حتى يكتمل -، يبدأ في العد التنازلي، ينزل ننكسه، يبدأ النزول من الأعلى إلى الأسفل حتى يصل إلى حال لا يعلم بعد علم شيئاً، تتلاشى قواه العقلية والبدنية - والله المستعان -، وهذا كله من دلائل قدرته - تبارك وتعالى -، كبار السن يشتكون دائماً من النسيان، يشتكون من العظام، من الركب إلى آخره، ينبغي أن يدرك أن هذا الأمر طبيعي، وأنه لا غرابة فيه، وإنما الغرابة لو أنه كان سالماً من ذلك جميعاً، هذا هو المستغرب، فإذا عرف الإنسان أن هذا الأمر طبيعي، وأنه لا إشكال فيه؛ خفت عليه آلامه، وأوجاعه التي يعانيها، وزكريا قال: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [سورة مريم:4] نبي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هذا الذي يقولون له: هشاشة العظام، كبار السن يصيبهم هذا هشاشة العظام، وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فهذا طبيعي، فإذا ذكر الكبر ذكر الوهن، وهن البدن، وهن العظام، وما إلى ذلك من ضعف الحواس، والإدراك، والله المستعان.

"كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم:54]، وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحج:5].

والمراد من هذا - والله أعلم - الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار".

كما يقول الشاعر:

المرءُ يأملُ أن يَعيشَ وطولُ عيشٍ قد يضرهْ
تفنى بشاشتهُ، ويبقى بعدَ حلوِ العيشِ مُرّهْ
وتَخونُهُ الأيّامُ حتَى لا يَرَى شيئاً يَسُرّهْ

لا شك كما قال ﷺ: خيركم من طال عمره، وحسن عمله[1]، لكن المقصود هو ما استعاذ منه النبي ﷺ من أن يرد إلى أرذل العمر، فمثل هذا لا يتمناه أحد، وليس هو المقصود بقوله ﷺ: خيركم من طال عمره أن يرد إلى أرذل العمر، النبي ﷺ استعاذ من هذا، فيتولى الناس منه كل شيء، يكون كالطفل تماماً بكل هذا، فيمنعونه من الخروج بأنه إذا خرج يضيع، قد يضر نفسه، قد يؤذي نفسه كالطفل تماماً، لكن الطفل يُستملح، يُستلطف، ويُنتظر فيه الكمال، ويُرجى النفع وراء ذلك، وأما هذا الكبير فيُرجى المفارقة لهذه الحياة، وليس يرجى له كمالاً بعد ذلك، ينسى كل شيء لا يعرف، يسأل زوجته يقول: من هذه؟ من هذا الرجل؟ يعني ولده، ما يعرف أحداً، فيتولون كل شيء منه من إطعامه، وما يقتضيه ذلك، ما أحد يتمنى هذا.

"والمراد من هذا - والله أعلم - الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال، وانتقال، لا دار دوام، واستقرار؛ ولهذا قال: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سن الشَّبيبة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة".

هو هذا، كل شيء تتأمله يردك إلى هذا المعنى، يعني الهلال يبدأ صغيراً فما يلبث أن يزيد حتى يكتمل فيصير بدراً، ثم بعد ذلك يبدأ بالتلاشي، والنقص حتى ينمحي، وهكذا إذا نظرت إلى العام حينما يبدأ تجد أنه يبدأ بهذه الطريقة، ثم بعد ذلك يبدأ بالتلاشي، طول الليل والنهار، يقصر الليل إلى أقصر مدى، ثم بعد ذلك يبدأ يطول حتى يصل إلى المنتهى، ثم بعد ذلك يبدأ يتقاصر، ويطول النهار، فالحياة كلها بهذه الطريقة، تبدأ الأشجار صغيرة، ثم بعد ذلك تكتمل، ثم بعد ذلك تبدأ بالتلاشي، البهائم، الدواب، الثمار تبدأ بداية ضعيفة يسيرة، ثم بعد ذلك تبدأ تكتمل حتى تصير في حال من الازدهار والنضج، ثم بعد ذلك تبدأ بالضعف، والذبول، والتلاشي، كل شيء فلا يبقى إلا وجه الله - تبارك وتعالى -، مثل هذا كله حري بالعاقل أن يزهد فيه، وألا يغتر بشبابه، وماله، أو بنضارته أو نحو ذلك.

  1. رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2329)، وأحمد في المسند، برقم (17680)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3296).