يعني الآن هذا دليل ثانٍ من دلائل القدرة على البعث، وحاصله إخراج الشيء من ضده، الشجر الأخضر طبيعته، وتكوينه، وتركيبه؛ مقابل للنار تماماً، النار التي طبيعتها الإحراق، والحرارة يناسبها اليبوسة، الذي يكون بهذه المثابة وهو الشجر الأخضر طبيعته الرطوبة، فهي تخالف تماماً، وتناقض طبيعة النار، فالنار لها خصائص، والشجر الأخضر له خصائص متناقضة، فإخراج الشيء من نقيضه دليل من دلائل قدرة الله يدل على البعث، يُخرج الشيء من معدنه مما يقاربه، ويشاكله، لكن أن يُخرج الشيء من النقيض هذا دليل على القدرة، ومن شاء المزيد حول المسألة فليراجع كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فقد فصل في هذا، وذكر خصائص النار، وطبيعتها، وذكر خصائص الشجر الأخضر، وطبيعته، وبه يتضح توجيه هذا الدليل.
"قال قتادة في قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه.
وقيل: المراد بذلك شجر المَرْخ، والعَفَار، ينبت في أرض الحجاز؛ فيأتي من أراد قَدْح نار وليس معه زناد؛ فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء، روي هذا عن ابن عباس - ا -، وفي المثل: "لكل شجر نار، واستَمجَدَ المَرْخُ، والعَفَار"".
و"استمجدَ المَرخ، والعَفار" يعني أنه تميز بهذا، يعني كل شجر فيه نار، ولكن المرخ والعفار هذا مثلُ ذكرٍ وأنثى في الشجر يكون زنداً، فيقدح فيه، فيشتعل، فكانوا يوقدون فيه النار مثل الولاعة، يعني بهذين النوعين من الشجر، يقدح هذا بهذا، هذا العود بهذا العود، ويشتعل، فتميز المرخ والعفار بهذه الخاصية.
لا ليس الغاب، في كل شجر نار إلا العناب، فالعناب نوع من الشجر المعروف له ثمر.
الشجر الأخضر الذي أخرج الله منه النار على المعنى الأول أن ذلك يكون حطباً فيكون وقوداً للنار، والمعنى الثاني أنه في حال خضرته قبل أن يصير حطباً، ويجف؛ يخرج منه النار، وذلك في نوع مخصوص وهو المرخ، والعفار الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا، فعلى الأول أن مادة النار هي الشجر، لكن بعد جفافه، ويبوسته، والثاني لا، يقطع الغصن من هذه، ويقطع الغصن من هذه، ثم يقدح فتخرج منه النار، فخرجت النار من هذه الأغصان الرطبة، وهذا أوضح، وأدل في القدرة؛ من إخراج الشيء من أضداده، ولكن لا ينفي الأول، فمادة النار هي الحطب، والحطب من الشجر، لكن هنا قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا هل المقصود به مباشرة هو شجر أخضر كالمرخ، والعفار؟ ذلك ليس بقاطع، - والله تعالى أعلم -، فيمكن أن يكون أخرج من الشجر الأخضر ناراً بعدما يقطع، ثم يجف، ثم يكون وقوداً للنار، فالله أخرج من الشجر الأخضر ناراً، وذلك بقطعه حتى يصير حطباً، فيكون وقوداً للنار كما هو معروف، ومن صوره الجلية الواضحة، وهي لربما أدل في القدرة - والله أعلم - قطع هذا النوع من الشجر وهو أخضر، ثم بعد ذلك يقدح فيخرج منه النار.