الأربعاء 25 / صفر / 1447 - 20 / أغسطس 2025
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا۟ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل، وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء فقال: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي: من أمة مكذبة".

القرن يطلق على المدة من الزمان، وعلى الجيل، ويطلق على الأمة من الناس، يعني الجيل منهم قرن، وبعضهم يقول: إنه يطلق على مدة معينة مثل مائة سنة: قرن، فهذا اصطلاح، القرن الأول، والقرن الثاني، والثالث، والرابع، لكن قوله ﷺ: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم[1] هل يعد هذا بمائة سنة؟ هذا فيه خلاف، وفيه كلام لأهل العلم، فبعضهم يعد ذلك بمدة أقل من هذا، ولما ذكر النبي ﷺ قال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد[2]، فذكر مائة سنة، فأخذ بعضهم من هذا أن القرن مائة سنة، والقرن يطلق على إطلاقات متنوعة.

"فَنَادَوْا أي: حين جاءهم العذاب استغاثوا، وجأروا إلى الله، وليس ذلك بمجدٍ عنهم شيئاً كما قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ [سورة الأنبياء:12] أي: يهربون، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:13]".

وغير هذا من الآيات كثير يذكر الله فيه حال هؤلاء الذين نزل بهم العذاب، حال الأمم حينما ينزل بهم العذاب، ويرون بأس الله - تبارك وتعالى -، ولكن ذلك لا ينفعهم.

"روى أبو داود الطيالسي عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله - تبارك وتعالى -: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ قال: ليس بحين نداء، ولا نزو، ولا فرار[3].

وقال محمد بن كعب في قوله تعالى: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ يقول: "نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم".

وقال قتادة: "لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء".

وقال مجاهد: فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ليس بحين فرار، ولا إجابة؛ ولهذا قال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ أي: ليس الحين حين فرار، ولا ذهاب، والله الموفق للصواب".

هذا الذي ذكره آخراً وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ أي: ليس الحين حين فرار، ولا ذهاب، هذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -، وقال به جماعة من المحققين، ومن هؤلاء الشنقيطي، والأقوال التي قبله قريبة منه يعني: ليس هذا وقت يمكن فيه الخلاص بالتوبة، أو الفرار، أو اللجوء إلى ما يعتصم به؛ فإن العذاب واقع لا محالة.

والمناص أصله مصدر، ناص ينوص مناصاً، فالمناص مصدر يرجع إلى معنى الفوت والتأخر فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ يرجع إلى معنى التأخر ليس بحين مناص، ليس حيننا حين مناص، فهذا الذي يتأخر هو يبحث عن المخرج، فهذا البحث عن المخرج يكون بالتراجع، أو التوقف، أو محاولة التجاوز ليتخلص مما هو فيه، ولهذا تجد بعض أهل العلم كالشنقيطي - رحمه الله - من حاول أن يربط المعاني أو بعض المعاني التي ذكرت بهذا الأصل وهو أنه بمعنى التأخر، فأعادها إليه بطريق أو بآخر، ويمكن أن يراجع كلامه، وهو كلام جيد، وكذلك كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، لكن الكلام إذا كثرت فيه وجوه الإعراب ونحو هذا لا أحب أن أقرأه لئلا يثقل، فيحسن مراجعة مثل هذا، فالشنقيطي يعيده إلى هذا المعنى الذي هو الفوت، والتأخر.

وَلاتَ هذه بمعنى "ليس"، أصلها "لا" التي هي بمعنى ليس أو مشبهة بليس، "لاتَ" فتكون التاء هذه زيدت عليه، تاء التأنيث، لات مثل التي تزاد على رُب، فيقال: رُبت، وثُم، وثُمتْ، فمضيتُ ثُمتَ قلت: لا يعنيني، ثمت وربت، فهي مشبهة بليس، وهذا الذي اختاره سيبويه، وقال به كثيرون، والاسم فيها مضمر لات حين يعني: ليس حينُنا حين مناص.

وفي الكلام فيها تفاصيل الأشياء التي تدخل عليها مثل الحين، والساعة، لات ساعة مندم، لات حين مناص، وما أشبه ذلك، فالتاء هذه زائدة تدخل على مثل رُب، ولا، وثُم.

  1. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).
  2. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب قوله ﷺ: لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم، برقم (2537).
  3. رواه ابن أبي حاتم في الزهد، برقم (52).