"وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [سورة ص:34-40].
يقول تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ أي: اختبرناه، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا لم يبين الله - تعالى - حقيقة هذا الجسد الذي ألقاه على كرسيه، فنحن نؤمن أن الله - تعالى - اختبره بإلقاء الجسد على كرسيه، ولا نعرف ما هو، وكل ما قيل حوله فهو من الإسرائيليات، لا نعرف صدقه من كذبه - والله أعلم -".
هنا في هذا الموضع كلام كثير، وروايات كثيرة جداً من الإسرائيليات، فيما وقع لسليمان - عليه الصلاة والسلام - من هذا الفَتْن، والاختبار وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ أي: اختبرناه، والفَتْن أصله كما مضى في بعض المناسبات: إدخال الشيء في النار؛ ليتبين خالصه من زائفه، أي: أن الله - تبارك وتعالى - ابتلاه، واختبره، فحصل له ما حصل، فألقي على كرسيه: سرير الملك، على عرشه قال: جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، ما هذا الاختبار الذي وقع، وما هذا الجسد الذي ألقي على كرسيه؟ هذه الروايات الإسرائيلية الكثيرة لا يمكن أن يفسر القرآن بشيء منها، والله - تبارك وتعالى - أبهمه هنا فلا حاجة للاشتغال بتحديده، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: إن هذه الروايات الإسرائيلية مما لا نعرف صدقه من كذبه، بل نعرف كذب كثير من هذه الروايات؛ لأنها لا تليق بمقام النبوة بحال من الأحوال، واليهود كما هو معلوم يقدحون بأنبياء الله - تبارك وتعالى -، وينسبون إليهم ما يتنزهون عنه، وما نزههم الله، وبرأهم منه، يذكرون أشياء لا تليق بحال من الأحوال، قصة الجرادة، امرأة يقال لها: الجرادة، وأشياء من هذا القبيل، ويدل على كذبها، وتهافتها؛ التناقض الواقع فيها، مختلقات، وأكاذيب، ومفتريات تقدح في مقام هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من كل وجه، سواء قالوا بأنه أراد أن يتزوج امرأة كافرة، فطلب منها أن تسلم، وأنها أخبرته أن القتل أقرب إليها من الإسلام، وأحب، وأنه لشدة جمالها تزوج منها إلى آخره، وأن الله عاقبه بهذا، هذا كذب، ولا يليق بمقام النبوة، وكذلك ما يذكرون من الأكاذيب، والأباطيل؛ أنه لما خرج من الحمام أعطى الجرادة خاتمه، وأنه جاء شيطان، وتمثل بصورة سليمان، وأنه أخذه منها، وجلس على سريره، فهذا هو الجسد شيطان، وجاءت تسميته بأسماء مختلفة في هذه الروايات المختلقة، ويذكرون في هذا أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - لما خرج إليها أنكرته، وما عرفته، وكذبته، وأنه صار طريداً لا يجد شيئاً؛ حتى لا يجد شيئاً يأكله، وأن الناس أنكروه، وأنه ذهب إلى امرأته ليطلب منها شيئاً يأكله فأعطته سمكة، فلما شق بطنها وجد فيه الخاتم، وأن معنى أَنَابَ أي: رجع إلى ملكه، أو أنه صار يشتغل، فحمل لرجل يصيد السمك على أن يعطيه سمكة من هذا السمك كأجرة، فأعطاه سمكة، فلما شق بطنها وجد خاتمه فيه، فرجع إليه ملكه، وهذه كلها أكاذيب، كيف يصير، كيف يتسلط الشيطان على نبي من أنبياء الله ، ويجلس على كرسيه؟!، بل يذكرون أقبح من هذا، وأقذر من هذا، يذكرون أشياء يتنزه عنها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، والله لا يفعل ذلك بأنبيائه، قالوا: إنه سأل أزواجه عن شيء إن كنّ ينكرن شيئاً مما يفعله، فقلن: كان لا يأتينا في حال الحيض والآن يأتينا في حال الحيض، يعني أن هذا الشيطان سلط حتى على زوجاته، وإنما ذكرت هذا لبيان تهافت هذه الأشياء؛ لأن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: لا نعلم صدقه من كذبه، فأردت أن أبين أننا نعلم كذب هذه الأشياء، ولا نتوقف فيها، وكما مضى في بعض المناسبات أن الروايات الإسرائيلية على ثلاثة أنواع، ونحن لا نذكرها، ولا نشتغل بها أصلاً حتى لو كانت مما نتوقف فيه، لا نذكرها في تفسير كلام الله ، والسلف إنما يذكرون ما يذكرون منها من باب الاستئناس لا من باب الاعتماد، وهم لا يفسرون القرآن بها، وللشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - كلام جيد في مقدمة اختصاره لتفسير ابن كثير، والكلام المعروف الذي ذكره الحافظ ابن حجر، وغير الحافظ ابن حجر: أن الإسرائيليات ثلاثة أنواع: قسم يخالف ما عندنا فنكذبه كهذه الروايات، وقسم يوافق ما عندنا فيقبل، وقسم لم يرد ما يوافقه، أو يخالفه؛ فنتوقف فيه، قالوا: وهذا الذي قال فيه النبي ﷺ: وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج[1]، مع النوع الثاني الذي يوافق ما عندنا، فهذا الذي لا نصدق به، ولا نكذب، لكن هذه الأشياء التي تقدح في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نكذبها، وهذه الروايات يذكرون أن الشيطان أراد أن يتسلط عليه، وذكروا أشياء، ومدارها على أن ملك سليمان، وكل ما يتعلق بالجن، والإنس، حتى الزوجات ما كن يعرفنه إلا بخاتمه، يعني: كأنه لما خلع الخاتم تغير كل شيء، حتى أنكرته زوجاته؛ ما عرفوه، أنكروه، وأقرب الناس إليه، وأخص الناس به أنكروه، فما عرفوه، فذهب لا يجد شيئاً يطعمه، هل هذا يعقل أنه كان يسخر هذا الملك جميعاً بخاتم، إذاً هذا الخاتم وقع بيد شيطان فصار هذا التسخير لشيطان؟!، ولهذا يقولون في هذه الروايات - أو في بعض هذه الروايات -: إن الشيطان هذا لما عرف أنه قد كشف حاله، فجاءوا، ونسخوا كتب السحر، ووضعوها تحت كرسي سليمان، فلما رجع سليمان استخرجوها، وقالوا: سليمان كان يسخر الجن بهذه الكتب، بالسحر يعني، وهذا يذكرونه عند قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ [سورة البقرة:102] فهذا كله من الإسرائيليات التي لا يمكن أن تقبل، ولا يصدق بها - والله تعالى أعلم -.
فاختبرناه قال: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا هذا الجسد أقرب ما يفسر به هو ما جاء عن النبي ﷺ بخبر سليمان لما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، ولم يقل: إن شاء الله، فولدت امرأة بعض إنسان" يعني إنساناً ناقصاً في الخلق، قالوا: هذا هو المقصود، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ يعني: رجع إلى الله، وعرف أنه ترك الاستثناء، والعلماء يتكلمون على هذا عند قوله تعالى في سورة الكهف: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23-24] في أن الاستثناء لا يصح أن يكون منفكاً - كما هو قول الجمهور - متراخياً عن اليمين، قالوا: ولو كان ذلك يصح لقال سليمان بعده: إن شاء الله، والله أعلم.
وابن جرير - رحمه الله - فسره بأن هذا الجسد شيطان، ومعوَّله في ذلك هذه الروايات، وأن قوله: ثُمَّ أَنَابَ ليس المقصود به التوبة، وإنما المقصود به أنه رجع إلى ملكه كما تقدم في قصة الخاتم، ولكن مثل هذا إنما مبناه على هذه الروايات الإسرائيلية - والله أعلم -.
هو هذا وليس معناه أنه رجع إلى ملكه، وهذا هو المتبادر في القرآن يعني إذا ذكرت الإنابة فالمقصود بها الرجوع، والتوبة إلى الله - تبارك وتعالى -.
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461).