أنه لا ينبغي لأحد من بعده أنه يختص به، وبعضهم يقول: لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إن هذا متصل بما ذكر قبله بأنه سلب الملك، ثم رجع إلى ملكه مرة أخرى فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي قالوا: لا يُسلب مني، لا يتمكن أحد أن يسلبه، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - بناءً على ما سبق، فإذا قيل: إن المعنى الأول غير صحيح أي الذي ذكره في أن ذلك المقصود به شيطان، وأنه سلط على ملكه، وأن أَنَابَ رجع إلى ملكه، فكذلك هنا يقال: إن هذا المعنى غير صحيح، لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي يعني: أي يسلبه، لا، وإنما يكون في شيء يختص به، ويدل على ذلك الحديث الذي يشير إليه، أو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من قول النبي ﷺ.
"قال: وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله ﷺ.
روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: أنه قال: إن عفريتاً من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان - عليه الصلاة والسلام -: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي قال رَوْح: فرده خاسئاً[1]، وكذا رواه مسلم والنسائي".
هذا الحديث واضح، وهو مرتبط بالآية، ومن ثَم يُقال: إذا جاء التفسير عن النبي ﷺ فلا يصح العدول عنه بحال من الأحوال، فهذا تفسير نبوي مرتبط بالآية، ليس من اجتهاد المفسر الذي يصيب، ويخطئ، فدل على أن هذا المُلك الذي سأله شيء يختص به، وإلا فلو كان المقصود أنه لا يسلب من بعدي، لا يتمكن أحد من سلبه؛ فإن سليمان - عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته انتقل الملك عنه، وارتفع، ولا يوصف بعد موته بأن ملكه باقٍ، وأنه لا يزول، وإنما ملك البشر يزول، ويبقى ملك الله - تبارك وتعالى -، فيكون المراد أنه شيء يختص به، ولذلك ترك النبي ﷺ هذا العفريت، ومن هنا يقال لأولئك الذين يزعمون أنهم يتسلطون على الجن برقية ونحو ذلك، يقال: هذه الرقى يمكن أن تسبب ضيقاً، وإزعاجاً لهؤلاء الشيطان، فيخرجون من جسد هذا الذي تلبسوا به، لكن أن يصير هذا الإنسان الراقي ونحو ذلك متسلطاً على هؤلاء الجن بحيث يتصرف فيهم؛ فهذا الكلام غير صحيح، وأقول هذا؛ لأن بعض هؤلاء يزعم أنه يفعل ذلك، وأنه يتسلط عليهم، وأنهم يطيعونه، وأنهم يستجيبون لما يقول، ويذكرون في هذا أشياء، وبعضهم قد لا يصرح بهذا، ولكن حاله تدل عليه، ويبدو أن غالب من يتعاطى الرقية، ويشتغل بها؛ أنهم يستعينون بالجن، بعضهم يصرح بهذا، ويزعم أنهم من الجن المسلمين، ويعرض الخدمات على من يثق به، وربما جاء إلى المريض، أو المصاب، أو الممسوس، أو من يتوهم ذلك؛ وعرض عليه، بل وأخبره أنه يدفع إليه نفراً من الجن سبعة أو أكثر، وربما مع أسرهم يصاحبونه حيثما ذهب، وأنهم يحمونه، وأنهم يقاتلون دونه، يقاتلون المردة من الشياطين وما إلى ذلك من أمور، ومختلقات الله أعلم بصحتها، لكن الذي أعرفه، وأتيقنه؛ أن الأمر كما قال الله : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [سورة الجن:6] فهذا الشيء الذي نراه عياناً أن هؤلاء الذين يتعلقون بهم، ويلجئون إليهم، ولو زعموا أنهم من المسلمين؛ أن ذلك لا يزيدهم إلا رهقاً، فهم لا يبرؤون من عللهم، وإنما ينتقلون من بلاء إلى بلاء، ومن أمور الله أعلم بها من الأوهام الكبيرة - أي الواسعة -، حتى ظن بعضهم أنه يخوض المعارك، وأخبروه أو أنهم أوهموه أو أنهم زينوا وصوروا له أن بيده سيفاً ضارباً، وأنه لا يزال يفتك بالمردة من الجن، وأنه يخوض المعارك في ليله، ونهاره، وأنه قتل منهم خلقاً عظيماً، وأنه صار أقوى من هؤلاء الذين جاءوا لحمايته، والذب عنه، وما إلى ذلك من أمور، هذه الأمور إذا دخل الإنسان بها فعند ذلك ستختلط عليه الأمور، وسيبقى في متاهة لا حد لها، لا يقف عند شيء، وبعض الذين يشتغلون بهذا من أوقات أو نحو ذلك لربما أوقعهم هذا في أنواع من السحر للأسف، وبعضهم صار يبيع الخواتم، وبعض هؤلاء قد يكون على عقيدة صحيحة قبل ذلك، ولربما يدعو إليها، ويتحول بعد ذلك إلى عبد للشيطان، وإلى ساحر من السحرة، وأعرف من هذا أشياء وأشياء؛ تحوّل هؤلاء، وبعضهم أُخذ بجرمه يعني بعضهم عوقب، وحبس بهذا، والبداية كانت رقية، اشتغال بالرقية، وأذكر أن الشيخ عبد الفتاح سلامة كان من العلماء السلفيين في مصر من مؤسسي جماعة أنصار السنة المحمدية، من زملاء الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - كان يقول: "بعض الذين اشتغلوا عندنا بالرقى من أصحاب العقيدة الصحيحة، يقول: بعضهم تحول إلى سحرة، ومشعوذين"، وهكذا تلاعب الشيطان بالناس، والله المستعان.
فهؤلاء الذي يتوسعون في هذا، ويسجلون أشرطة، ويتكلمون، بل بعضهم كان يخوف الطلاب دائماً، ويوهم الطلاب، ويرسل لهم رسائل مباشرة وغير مباشرة، في ثنايا الكلام أنه لديه قدرات، ومتمكن من الجن، فكان حتى في الأشياء التربوية، والتعليمية؛ وما إلى ذلك يخبرني بنفسه أنه إذا رأى بين اثنين من الطلاب علاقة فيها ريبة جاء بأحدهما، وقال له: تخبرني الآن أو سيخبرني غيرك، هو لربما يلبس خاتماً لكنه ليس فيه سحر، أنا أعرف أنه ليس به، لكن هؤلاء يظنون، فهو يوهمهم بطريقة أو بأخرى، فيجلس الطالب يبكي، ويرتعد، ثم يخبره عن الخيط، والمخيط، وعن كل شيء، مما سأله عنه، ومما عرفه، ومما لم يعرفه، ومما خطر في باله، وما استراب منه، وما لم يسترب، ويعطيه كل ما يتعلق بحياته، يقول له: ستخبرني وإلا كذا - يعني يهدده -، ويتكلم معهم بأشياء يقول: عندي شيطان صغير أضعه في ميدالية أنقله معي حيث شئت، وأخبرني آخر أنه يؤذن، فبمجرد ما يؤذن يحضر المارد، العلامة بينه وبين المارد هو الأذان، أخبرني بنفسه، قال: إن شئت حضر الآن، هذا في مكة، وذاك في المغرب، المارد في المغرب، وهذا في مكة في الحرم، رجل ملتحٍ، ولابس عمامة، قال: بيني وبينه الأذان؛ كيف هذا المارد سُخر لك؟ قال: كان في إنسان، ورقيته، واستعنت بالله ، وطال ذلك، طال أمده، ثم بعد ذلك هداه الله، وأسلم، وصار طيّعاً لي يأتي حيث شئت، بمجرد ما أؤذن يحضر المارد، لا أحدث عن آخرين، أنا سمعته بنفسي.
فانظروا إلى أي حد بلغ هؤلاء في أمور قد تكون حقيقية فيتلاعب بهم الشياطين، وأمور قد تكون موهومة، لكنهم يتلاعبون بهم في كل حال، وقد يعطونهم في البداية أشياء، ثم بعد ذلك يتحول الأمر إلى عبادة لهم، يستذلونهم وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة النور:21].
- رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الأسير - أو الغريم - يربط في المسجد، برقم (461).
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، والتعوذ منه، وجواز العمل القليل في الصلاة، برقم (542).