هذا المعنى جميل، وجيد، وكما سبق في بعض المناسبات قد تجد المعنى الذي يروقك، ومثل هذا الموضع من المواضع التي تكون في التدبر هي مما يرفع الناس إليه أبصارهم، يعني: قوية، ذات معنى يأسر النفوس، المعاني التي تذكر في التدبر هي أنواع، وفي شهر شعبان الماضي جردت الكتب الخمسة التي صدرت عن مركز التدبر، ورأيت أن الأشياء التي تذكر هي على ثلاثة أنواع: نوع هو خطأ في التفسير أصلاً، وفي المعنى، فُهمت الآية على غير وجهها، فذكر معنى بناءً عليه غير صحيح، فهذا ليس من التدبر، وليس من التفسير، وإنما هو غلط، كقول بعضهم مثلاً: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:32-33]، يقول: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ يعني: أن الشرر الذي نراه في الدنيا بمجرد ما يتطاير ينطفئ، ويذهب توهجه، بينما هذا يستمر في التوهج لقوته، وشدة حرارته؛ فيبقى على حاله كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ هنا فسر الجمالة بأن لونها أصفر، بينما الصفر في ألوان الإبل المقصود به السواد، وقد مضى الكلام على هذا إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء [سورة البقرة:69] يعني: سوداء، هنّ صفرٌ أولادها كالزبيب، كل هذا مضى، فهو فاهم أن الصفرة هي الصفرة المعروفة، وأن الشرر يتوهج، هذا الكلام غير صحيح، فهو مبني على معنى غير صحيح، فهناك أشياء من هذا القبيل، والنوع الثاني ليس من التدبر هي مجرد معانٍ في التفسير، تفسير للآية فقط، النوع الثالث هي أشياء من التدبر، وهي على مراتب، فالذي بهذه الصفة التي ذكرت يعني ما يأسر السامعين هذه قليلة، قد لا تتجاوز أصابع اليدين، أقصد في هذه الكتب الخمسة، وربما تختلف مقاييس الناس، وأنظار الناس، فمثل هذه هي معنى يأسر النفوس: "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" لما عقر الخيل، لكن لاحظوا أنه على أحد المعنيين، ونرجع نكون مثل أصحاب الإعجاز، نحن نقول لهم: قولوا: على أحد المعنيين فيذهب الزخم الذي أرادوه، وقصدوه في ما ذكروا من الإعجاز لو قالوا: هذا على أحد القولين، هذا على قول فلان، فكذلك في قضايا التدبر إذا قيل: هذا على أحد المعنيين، يعني لا يكون بقوة أن تذكر هذا جزماً بلا تردد، ومثل كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، أحياناً يكون ليس على أحد القولين، وإنما يكون أحياناً فيه ما يعكر عليه، قول ابن القيم - رحمه الله - عند قوله - تبارك وتعالى -، لكن الإنسان أحياناً ينسى نفسه، ابن القيم - رحمه الله - لما تكلم على قوله - تعالى - في قصة إبراهيم ﷺ لما جاءته الملائكة، وبشروا امرأته بالولد، فصكت وجهها، وقالت: عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29] هكذا أدب المرأة المسلمة مع الرجال في كلمتين، كل واحدة تضمنت علة تمنع من الإنجاب بمفردها، فكيف باجتماع الأمرين: عجوز، وعقيم؟!، فالمرأة لا تتوسع في الكلام مع الرجال الأجانب، معنى جميل، لكن قوله في الآية الأخرى: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72] هل يستطيع أن يذكر هذا المعنى في هذا الموضع، مع أن القصة واحدة؟، وإنما قالت كلاماً واحداً، ولكنه اختلف، والمضمون واحد، بسبب أن المنقول من كلام هؤلاء المتكلمين من غير العرب إنما هو بمعناه، فتارة يذكر بسياق أطول، وتارة يختصر ويذكر المضمون، المقصود هو الترجمة، نقل المعنى، فمثل هذا المعنى جميل؛ لكن قد ينغص هذا الجمال ما ذكرت.
قوله: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ رخاءً يعني: رخوة بمعنى أنها لينة في هبوبها، وجريها، فهذا المعنى الآن كونها رخاءً يرد عليه إشكال، وهذا معناها أنها رخوة لينة في هبوبها، لكن الآن في هذا المعنى هنا في سورة ص قد يشكل عليه قوله - تبارك وتعالى -: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً [سورة الأنبياء:81]، والعاصفة هي شديدة الهبوب، قوية، فهنا قال: رُخَاءً فبعض أهل العلم أجابوا عن هذا بإجابات، فبعضهم يقول: إن قوله هنا رُخَاءً هي: لينة، وهناك قال: عَاصِفَةً أي رخاء في قوة العاصفة، فوصفها من حيث التأثير، والسرعة غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سورة سبأ:12]، وقد مضى الكلام على هذا أنها عاصفة، ووصفها هنا في لينها، وفي سهولتها، وما إلى ذلك بأنها رُخَاءً.
وبعضهم يقول: إن الموصوف هناك بكونها عاصفة هذا في رجوعها إلى الأرض التي بارك الله فيها، وهي موطن سليمان - عليه الصلاة والسلام - وهي الشام إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأنبياء:71] قالوا: قيَّده بهذا في سورة الأنبياء، فهي إذا كانت راجعة إلى الشام فإنها تكون عاصفة تسرع به، وأما في الذهاب فإنها تكون لينة، رخوة؛ وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: إن ذلك من أوصافها حيث إنها في حال رفعها لهم يعني حينما ترفع الجيش تكون قوية عاصفة، فإذا ارتفعوا فإنها تكون رخوة لينة، يعني كما يعبر الآن في الطيران بالإقلاع، يكون الدفع قوياً جداً، وإذا استقام سيرها، وارتفعوا؛ تكون رخوة لينة، وبعضهم يقول: هي رخوة في نفسها، ولكنها عاصفة في عملها، وتأثيرها حيث تؤدي ما تؤديه الريح العاصف - والله تعالى أعلم -.
كما تقول: أصابك الله بخير بمعنى أرادك بخير، حَيْثُ أَصَابَ حيث أراد، وهنا يرد سؤال وهو أنه في سورة الأنبياء قال: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وهنا قال: حَيْثُ أَصَابَ، فهي تنقله ليس فقط إلى الأرض التي هي الشام، وإنما هذا في رجوعها إلى مقر مملكته، وإلا فإنها تنقله منها إلى حيث أراد، وهذا من أعجب الأشياء، جيش بكامله يُنقلون على متن الريح، بما معهم من سلاح، ودواب، ومؤن، وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ [سورة سبأ:13] وما إلى ذلك من أشياء ينقلهم بالريح، فهذا من العطاء الذي أعطاه الله لسليمان - عليه الصلاة والسلام -، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، فهذا من الأمور العجيبة.