"وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [سورة ص:45-29]
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين، وأنبيائه العابدين: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ يعني بذلك: العمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: أُولِي الأيْدِي يقول: أولي القوة وَالأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين، وقال قتادة، والسدي: "أُعطُوا قوة في العبادة، وبَصرًا في الدين"".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ قال الحافظ - رحمه الله -: يعني بذلك العمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة يعني أُولِي الأيْدِي يعني: أصحاب القوة العملية، وَالأبْصَارِ ذلك يعني القوة العلمية يعني البصيرة في الدين، وباجتماع هذين الأمرين يكون الكمال للعبد، فبحسب قوته العملية مع قوته العلمية يكون كماله، وذلك أن القوة العملية من غير بصيرة لا شك أن ذلك نقص يوقعه في ألوان الانحرافات في السلوك، والاعتقاد، والعمل، وكذلك إذا كان هذا الإنسان لديه قوة علمية، وبصيرة ولكنه ليس له عمل فإنه يكون ناقصاً؛ لأن المقصود من العلم العمل، مع أن البصيرة ليست هي مجرد العلم، ولكنها تعني نوراً يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، ومعدن الحق، ومعدن الشبهات، فيتعرف بذلك النور حقائق الأشياء على ما هي، ولا يلتبس عليه الحق بالباطل، وهذا لا يتأتى للإنسان إلا بعمل، وعبادة، واجتهاد في طاعة الله ، وتوقي الحرام؛ مع حفظ حدود الله ، بالإضافة إلى ألوان المجاهدات مع العلم، فالاجتهاد في العمل وحده لا تنفتح معه البصيرة وتكتمل، كما أن الاجتهاد في العلم وحده بالنظر البحت بعيداً عن العمل، واللجأ إلى الله - تبارك وتعالى -، وطلب التوفيق منه، والإخبات، وحياة القلب وما إلى ذلك؛ كل هذا لا تنفتح معه البصيرة، فالله أثنى على هؤلاء الكُمل من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذين الوصفين أُولِي الأيْدِي أصحاب القوة العملية في طاعة الله ، وهذه الطاعة، والقوة العملية؛ يدخل فيها التعبدات الخاصة: قيام الليل، وصيام النهار، وألوان العبوديات القاصرة، ويدخل فيها العبادات المتعدية من الدعوة إلى الله ، فهم أقوياء في دعوتهم، نشطاء لا يتوقفون، لا يكل الواحد منهم، ولا يمل من تبليغ دين الله ، ومجاهدة أعدائه أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ، فالنشاط وحده، والقوة، والتوقد، والحيوية، وما إلى ذلك مطلب، والعلم، والاشتغال به مطلب، ولكن لا بد من اجتماع الأمرين، فإذا اجتمعا استنار القلب، فيكون له هذه الخاصية، والصفة التي تقوى، وتضعف، وهي بمنزلة نظر العين، فالبصيرة هي نظر القلب، وتقوى، وتضعف كما يضعف، ويقوى؛ نظر العين، هذه هي البصيرة أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ، إذاً الجاهلون قد يُفسدون، ولا يصلحون بأعمالهم، واجتهاداتهم؛ سواء كان ذلك في دعوتهم، أو في عبادتهم الخاصة وما إلى ذلك، يقعون في البدع، يقعون في المخالفات المتنوعة، وإذا عمل في الدعوة جاء بمخالفات، وأمور، حتى إنك في كثير من الأحيان قد تحتاج إلى احتساب على هؤلاء كما تحتسب على كثير من أصحاب المنكرات في أمور مخالفة، ولربما تكون ظاهرة أمام الناس في إعلانات، وهي مخالفات، وأمور منكرة في الشرع؛ تتعجب كيف تصدر عن طريق هذه الجهة الخيرية أو الدعوية التي قصد أصحابها طلب ما عند الله - تبارك وتعالى -، لكن بسبب الجهل يقعون في مثل هذه الأمور، فإن اشتغل في أمور إغاثية أو نحو ذلك تصرّف في الأموال تصرفات لا تبرأ بها الذمة، وهو يريد ما عند الله ، فيتحمل في ذمته أشياء بسبب هذه الاجتهادات التي لم تصدر ممن تأهل للاجتهاد، والنظر في مثل هذه الأمور، فيرتكب أموراً يلحقه فيها الحرج باجتهاده، وقل مثل ذلك إذا اشتغل بعمل من الأعمال القاصرة، أو المتعدية، فإذاً لا بد من اجتماع الأمرين، فالكمال بحسب ما يحصل للعبد منهما أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ عمل ببصيرة، والحديث في مثل هذا ذو شجون، ويطول، ولكن ليس هو المقصود في مثل هذه المجالس.
فما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال هنا: يعني بذلك العمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة، هذا الذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -، ونقل عن ابن عباس - ا -: أُولِي الأيْدِي يقول: أولي القوة، والعبادة، وَالأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين، وهذا مثل الذي قبله.
وقال قتادة، والسدي: "أُعطُوا قوة في العبادة، وبصراً في الدين"، وهذا كله يرجع إلى ما سبق، وهذا هو قول الجمهور، بل نقل النحاس اتفاق أهل العلم على أن المراد بالأبصار (البصائر) في الدين العلم يعني: لم يقل أحد مثلاً: إن المقصود بالأبصار بصر العين مثلاً، ليس هذا هو المراد بحال من الأحوال، لكن الذي اختلفوا فيه هنا هو الأيدي أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ، فإن الجمهور يقولون: الأيدي يعني القوة في العبادة، والجانب العملي، يعني القوة في الدين في خاصتهم، وفيما يكون متعدياً في دعوتهم، وجهادهم، وبذلهم وما إلى ذلك، وبعضهم يفسر الأيدي هنا بالنعمة أُولِي الأيْدِي تقول: فلان له أيدٍ على الناس يعني: له فضل، ونعمة، وإحسان على هؤلاء الناس، فهم يحسنون إلى الناس بألوان الإحسان، لهم أيادٍ بيضاء على الناس، وبعضهم يفسر الأيدي أيضاً بالنعمة، لكن يحمل ذلك على أنهم أُولِي الأيْدِي يعني: الذين أنعم الله عليهم، يعني أنهم من المُنعَم عليهم، الذين حصلوا حظاً وافراً من نعم الله عليهم، هؤلاء كلهم يفسرون الأيدي بالنعم، لكن الأولين يقولون: المقصود إفضالهم على الناس وإنعامهم، والآخرون قالوا: المقصود أن الله أنعم عليهم أُولِي الأيْدِي يعني: الذين أنعم الله عليهم، وحباهم، وأولاهم، وأعطاهم، وامتن عليهم بكثير من النعم، وكأن ابن جرير - رحمه الله - في بعض كلامه يميل إلى تفسير الأيدي بالنعم، أصحاب النعمة يعني: الذين أنعم الله عليهم، كأنه يميل إلى هذا، مع أنه في بعض كلامه يقول ما ظاهره موافقة من قالوا: القوة العلمية، والقوة العملية.
والقراءات المتواترة في هذا الموضع أُولِي الأيْدِي قرأ بالياء على قراءة الجمهور، وعلى هذا فهي جمع يد، الأيدي جمع يد، ولكن في قراءة أخرى غير متواترة مروية عن ابن مسعود، والأعمش، والحسن البصري الأيد، وهذه القراءة تحتمل، فالأيدي جمع يد، ومن فسره بالنعمة على هذه القراءة فله وجه الأيْدِي، لما ذكر الله داوود قال: ذَا الْأَيْدِ يعني: ذا القوة، وقال: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [سورة الذاريات:47] بدون ياء، والأيد في لغة العرب القوة، الأيد غير الأيدي، الأيدي جمع يد، والأيد بدون ياء تعني القوة في لغة العرب، هذا ليس بتأويل، هذه مادة، وهذه مادة، هذه لفظة، وهذه لفظة، ليس هذا من التأويل في شيء، فهنا عندنا في هذا الموضع أُولِي الأيْدِي هذا ممكن أن يحمل على القوة أُولِي الأيْدِي ويمكن أن يحمل على النعم وما إلى ذلك، والآية تحتمل أن يكون المعنى - كما سبق - أصحاب القوة العلمية، والعملية، والمعنى الثاني: أنهم أصحاب إحسان إلى الناس، إلا على قول من قال: المقصود بالأيدي أن الله أنعم عليهم، وأحسن إليهم، أصحاب إحسان إلى الناس، وبصائر في الدين، فيكون بذلهم، وإحسانهم، ونفعهم على بصيرة كما قال الله : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [سورة يوسف:108]، ولا شك أن من أعظم الإحسان إلى الناس تبليغ دين الله، وتعليم الناس دينهم، ودعوتهم إلى الله - تبارك وتعالى -، وهداية الناس، تقديم الهداية للناس هذه أعظم ما يمكن أن يقدم لهم، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم[1]، فهذا من أياديهم البيضاء على الناس، أُولِي الأيْدِي فيكون ذلك على بصيرة، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي فلا يكون ذلك على جهل، وهذه الدعوة التي يعملون بها هي من جملة العمل عند من فسر ذلك بأصحاب القوة العملية كما سبق، فيكون هذا القول الثاني مضمناً في القول الأول، فالقول الأول أعم من هذا القول الثاني.
والآية فيها هذا الاحتمال، والعلم عند الله .
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، برقم (3009)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب، برقم (2406)