الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
إِنَّآ أَخْلَصْنَٰهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال: وقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قال مجاهد: أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها، وكذا قال السدي: "ذكرهم للآخرة، وعملهم لها"، وقال مالك بن دينار: "نزع الله من قلوبهم حب الدنيا، وذكرها، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها"، وقال قتادة: "كانوا يُذَكّرون الناس الدار الآخرة، والعمل لها"".

هنا هذه صفة أخرى ذكرها، صفة ثالثة، الأولي أُولِي الأيْدِي الثانية: وَالأبْصَارِ أصحاب البصائر، ثم قال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.

قال مجاهد: "جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها" يعني: بمعنى هذا فيه معنى الإخلاص، يعني: أنهم لا يريدون بعملهم سوى الله - تبارك وتعالى -، العمل للدار الآخرة، لا يعملون من أجل أن يحصلوا عرضاً من الدنيا، وهذه صفة عظيمة، من أعظم أوصاف الدعاة إلى الله - تبارك وتعالى - من الرسل، وأتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وذلك مضمن في قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ يعني: لا يدعو إلى نفسه، لا يدعو إلى طائفة غير طائفة الرسول ﷺ وحزبه، ولا يدعو ليحصّل مكاسب دنيوية في هذه الدعوة، فيتحول إلى تاجر، ولا يدعو من أجل أن يحصل جاهاً، ومنزلة، وحظوة في قلوب الناس، فيكون له من الجماهير، والمتابعين؛ ما يفتن به، فيتحول هذا إلى هم - نسأل الله العافية -، بل لربما يلبس عليه الشيطان؛ فيظن أن هذا هو المعيار في كون الإنسان على حق، أو على باطل، والعاقل إذا أراد الله به خيراً، وفتح بصيرته؛ نظر في بعض من لا يُشَك بل يُتفق على ضلالهم من المُجّان، أو من أصحاب الديانات الأخرى الفاسدة الباطلة، ولربما تجد نصرانياً لا يساوي نعله التي يلبسها، ويتابعه الملايين، يتابعه لربما أكثر من مائتي مليون في برنامج يقدمه، وهذا موجود في الإحصاءات والدراسات التي ينشرها الغرب، وعالم الإعلام الجديد كما تعرفون تجد بعض المُجّان الذي يُتفق على أنه من المُجّان يتابعه خلق كبير من الناس أكثر من المتابعين للدعاة إلى الله، وطلبة العلم من المصلحين، ناس لا خلاق لهم، وتجد لهم الأتباع، والله أخبر عن حزب الشيطان وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فليس المعيار هو الكثرة، فيبحث الإنسان عنها، ويضيع آخرته، وينسى ما خلق من أجله، فالطريق هو لزوم السنة ظاهراً وباطناً، وطلب ما عند الله - تبارك وتعالى - قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ كما سيأتي، فهذا الأجر تارة يكون مالاً، وتارة يكون رئاسة، وتارة يكون هذا الأجر جاهاً يحصله؛ وما إلى ذلك من أمور هي حظ للنفس أعظم من المال؛ لأن المال إنما يبذل من أجل تحصيل هذه المطالب، والمكاسب الدنيّة، فهنا الله يقول: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ هم يعملون للآخرة، يريدون بعملهم هذا ما عند الله - تبارك وتعالى -، لا أن يُقدَّموا في الناس، ولا أن يكون لهم منزلة وحظوة في قلوب الخلق، فهذا هو الرياء الذي يبطل الأعمال، قال: وكذا قال السدي، يعني: ذكرهم للآخرة، وعملهم لها ذِكْرَى الدَّارِ، يعني أن الآخرة بين أعينهم، لا يفارق ذكرها قلوبهم، ملازمة لقلوبهم، وإذا كان الإنسان يتذكر اليوم الآخر دائماً فإن أعماله، وأحواله؛ تكون على حال من الاستقامة، والصلاح، ولذلك تجد دائماً في القرآن الارتباط بين اليوم الآخر والإيمان بالله، فالإيمان باليوم الآخر محرك للعمل، والامتثال، والذين ينعى القرآن عليهم انحرافهم يعلل ذلك في كثير من المواضع بأنهم لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فإذا كان الإنسان لا يؤمن باليوم الآخر فإنه لا يؤمن بأنه سيكون حساب، وجزاء على الأعمال، ومن ثَمَّ يعمل ما يحلو له، ولا يرعوي، ولا يقف عند شيء.

قال: "وقال مالك بن دينار: نزع الله - تعالى - من قلوبهم حب الدنيا، وذكرها، وأخلصهم بحب الآخرة، وذكرها".

وقال قتادة: "كانوا يُذكِّرون الناس الدار الآخرة، والعمل بها".

هذه الأقوال متقاربة، يعني أنهم يشتغلون بالدار الآخرة، ويعملون من أجل الدار الآخرة، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما كانوا يعملون للناس دورات كيف تثمر أموالك، وكيف تبني مستقبلك الدنيوي، وكيف تستطيع أن توفر أرصدة، وكيف تستطيع أن تدير حياتك المعيشية اليومية وما إلى ذلك، هذه مطالب دنيوية مطلوبة، لكن يوجد من أهل الدنيا من أهل الحذق من يتولى هذا على أكمل الوجوه وأتمها كأنهم خلقوا لهذا، أما الدعاة إلى الله فلا يصح أن يتحولوا إلى بهلوانيين، ومهرجين، ويقدمون مثل هذه الأمور، فهم ليس هذه مهمتهم، مهمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تختلف تماماً عن هذا، والإنسان لا بد أن يعرف الثوب الذي يلبسه، ويخرج به إلى الناس، ليست أعمال الداعية إلى الله أن يتحول إلى مدرب في الأمور الدنيوية، والناس في غاية الحرص على هذا، ولهذا كما قال الشاطبي - رحمه الله -: لم يأت في القرآن تكرر الحث على الأكل، والشرب، والنكاح وما إلى ذلك؛ لأن هذه تطلبها نفوس الناس جبلّة، لا يحتاج الناس إلى أمر، وحث عليها، ووعيد لمن تركها، مع أن القدر الذي يقوم به حياة الناس واجب، لكن ما جاء القرآن بالحث على هذه الأشياء، وإنما إذا ذكرت فإن ذلك يذكر في مقام الامتنان على الناس يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [سورة البقرة:168] وفي مقام التفضل عليهم، وما إلى ذلك؛ لا يحتاجون أن يقال لهم: كلوا، اشربوا، إلا في مقام الامتنان، والإفضال، أو التعليم، والتوجيه؛ لأمر يتصل بذلك وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] مثلاً، لكن هم بحاجة إلى العمل الصالح، والتذكير باليوم الآخر.

فهنا إذاً إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ "خالصة" هذه تحتمل أن تكون صفة لموصوف محذوف، أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ، وتكون الباء للسببية أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ بسبب خصلة خالصة، أخلصناهم بسبب خصلة خالصة، ما هذه الخصلة الخالصة؟ هي ذِكْرَى الدَّارِ، وهذه الآية قرأ نافع وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى، يعني من غير تنوين بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، فهذه قراءة في الآية، والقراءة الأخرى التي نقرأ بها وهي قراءة الجمهور بالتنوين بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، فعلى القراءة بالتنوين جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، يعني خلص لهم تذكر الدار الآخرة يعني: أنهم يتذكرون التأهب للآخرة، ويعملون من أجلها، ويزهدون في الدنيا، وحطامها.

وعلى الإضافة من غير تنوين كأن المعنى يكون أخلصنا لهم إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار الآخرة بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ، المقصود أنه كان اشتغالهم في التأهب للآخرة، وأن عنايتهم كانت متوجهة إليها، فهذا يدل على إخلاصهم لله ، وأنهم لا يريدون الدنيا، ولا يعملون من أجلها، لا بعملهم هذا الذي يقدمونه في دعوتهم، وليس ذلك أيضاً مستحوذاً عليهم غالباً - على حالهم - التفكير في الدنيا، والاشتغال بها، إنما يأخذون منها بقدر الحاجة مما يبلغهم، ولكنها لا تدخل قلوبهم، فإذا دخلت الدنيا في القلوب، واشتغلت القلوب بها تفكيراً، ونظراً، واهتماماً؛ وما إلى ذلك فهذا عن الزهد بمنأى، فيكون هذا الإنسان في قلبه تعلق بهذه الحياة، وحطامها، أما المزاولات العملية فالرسل كانوا يمشون في الأسواق، والنبي ﷺ يقول: حُبب إلي من دنياكم: النساء، والطيب[1] إلى آخره، فهذا كما قال شيخ الإسلام في كتاب العبودية: إن هذا بمنزلة الكنيف الذي يجلس عليه - أعزكم الله -، والدابة التي يركبها، ولكنها لا تدخل إلى قلبه، فالدنيا إذا دخلت القلب أفسدته، وأشغلته، وصرفته عن ذكر الله ، وطاعته، وعبادته، وهذا أمر يعرفه الإنسان من نفسه، وهو مشاهد لا ينكره أحد - والله المستعان -.

لكن هذه الآية جامعة، ونحن نغفل عنها كثيراً في دعوتنا، وعملنا، واشتغالنا، ومزاولاتنا، يحتاج الإنسان أن ينظر في نفسه، وينظر في اهتمامه، وينظر في توجه قلبه إلى أين يتوجه، ليس المقصود أن الإنسان يلتفت إلى الناس، وينظر إلى الناس، ويقول: هؤلاء يريدون الدنيا أو يريدون الآخرة، إنما ينظر إلى نفسه هو ماذا يريد، النفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة في كل الأعمال التي يراد بها وجه الله - تبارك وتعالى - فضلاً عن الأعمال التي قد يختلط فيها طلب هذا وهذا على سبيل التبع، يطلب الدنيا تبعاً للآخرة فيما يجوز الالتفات فيه إلى المطالب الدنيوية، لكن في الأعمال المحضة التي يراد بها ما عند الله يحتاج الإنسان إلى مجاهدة كبيرة، وحبس لهذه النفس، وصبر على طاعة الله، وإلا فقد يقوم، ويقعد، ويذهب، ويجيء، وينشغل عن أهله، وعن كثير من اللذات، وهو يطلب لذة كبرى من لذات هذه الحياة الدنيا، الجماهيرية، والناس يشيرون إليه بالأصابع، وما إلى ذلك، أنه يُعرف، ويُذكر - نسأل الله العافية -، وما يغني عنه مثل هذا إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.

في كلام ابن جرير في قوله: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، قال: "ويعني بالأيدي القوة، يقول: أهل القوة على عبادة الله، وطاعته، ويعني بالأبصار أنهم أهل أبصار القلوب، يعني: أولو العقول للحق، يعني: الأبصار".

هذا - كما ذكرتُ - موافق لكلام ابن كثير - رحمه الله -، وذكَرَ الأقوال ثم قال: فإن قال لنا قائل: وما الأيدي من القوة، والأيدي إنما هي جمع يد، واليد جارحة، وما العقول من الأبصار، وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مَثَل، وذلك أن باليد البطش، وبالبطش تعرف قوة القوي، يعني حتى على قراءة الياء، ولهذا الجمهور فسروه بالقوة، وهم لا يقرؤون بهذه القراءة الشاذة الأخرى التي هي غير متواترة الأيد التي هي بمعنى القوة، يعني حتى قراءة الياء الجمهور حملوه على معنى القوة، وأنه جمع يد لكن ليس بمعنى النعمة، فإن اليد يكنى بها عن القوة كما هو معلوم، ولكن ذلك إذا جاء في صفة الله ففيه إثبات صفة اليد، وقد يكون فيه معنى زائد على ذلك، لكن أولاً نثبت الصفة، ثم ننظر في المعاني المكملة.

يقول: فلذلك قيل للقوي: ذو يد، وأما البصر فإنه عَني به بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: بصير به، يقول: وقد يمكن أن يكون عَنى بقوله: أُوْلِي الْأَيْدِي أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة.

فكأنه في بعض كلامه الذي يرجحه هو الأول الْأَيْدِي بمعنى القوة، لكنه هنا ذكر المعنى هذا: أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيدياً لهم عند الله تمثيلاً لها باليد تكون عند الرجل، ثم ذكر القراءة الشاذة:

قال: وقد يحتمل أن يكون ذلك من التأييد الأيد، وأن يكون بمعنى الأيدي، ولكنه أسقط منه الياء، كما قيل: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ [سورة ق:41] بحذف الياء، إذاً هو يذكر القول الأول ابتداءً، الأيد يعني القوة، وذكر الاحتمال الآخر فيها أُوْلِي الْأَيْدِي، لكن قوله هنا في المعنى الأخير يعني كأنه عند التأمل الذي ذكره احتمالاً فيه فرق بين قوله وقول من قال: أُوْلِي الْأَيْدِي يعني الذين أنعم الله عليهم، هو يقول: أصحاب أيدٍ عند الله، عندهم أعمال صالحة يدخرونها عند الله، لاحظ هذا الفرق الدقيق - والله أعلم -، كأننا إذا أردنا أن نفصل هذه الأقوال نجعلها على قسمين: القوة أو الأيدي على الناس بالإحسان إليهم، ألوان الإحسان، أو بإنعام الله عليهم، أو بأن لهم أيدياً عند الله - تبارك وتعالى - لا على وجه - لا على معنى - أنهم محسنون إلى ربهم - تبارك وتعالى -، فالله غني عن خلقه، وعن عملهم، ليس لأحد يد على الله، ولكن عندهم أيدٍ يدخرونها عند الله يرجون بها ثوابه، بهذا الاعتبار - والله أعلم -.

  1. رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (13232)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3124).