هذه العبارات - متزحزحاً، ومتحولاً، ويجد عوضاً - كل هذه عبارات متقاربة في معنى قوله: مُرَاغَمًا، وهذه اللفظة يلوح فيها معنى الإرغام، وذلك أن من يخرج من بيته مهاجراً إلى الله، ورسوله رغماً عن أنوف المشركين الذين يستضعفونه فإنه يجد في الأرض مجالاً واسعاً للانطلاق، والعمل في طاعة الله ، وما إلى ذلك مما يحصل به إعزاز الدين فيرفع رأسه، ويعمل من غير إهانة، ولا إذلال، فيكون عمله ذلك إرغاماً لأعدائه الكفار، ولعدوه الأول الذي هو الشيطان، ولذلك ذكر النبي ﷺ في سجدتي السهو إذا شك المصلي في صلاته أنه إذا كان، وقع له نقص كانت السجدتان تكميلاً لذلك النقص، وإن لم يكن فيها نقص فإنها تكون ترغيماً للشيطان[1].
كما أنه - عليه الصلاة، والسلام - رخص في التبختر بين الصفين في القتال، مع أن هذه الصفة مذمومة، لكن لما كان فيها إرغام للعدو، وإغاظة له لم تكن كذلك.
ومن أمثلة إرغام العدو ما ذكره تعالى بقوله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ الآية [سورة الحشر:5] حيث ختم الآية بقوله: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5] فكذلك إذا انتقل الإنسان، وتحول من حال الاستضعاف إلى حال يقوى فيها، ويستطيع أن يعمل بطاعة ربه - تبارك، وتعالى - ، وأن يقدم لدينه كان ذلك إرغاماً لعدوه.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم على عبودية المراغمة كلاماً جيداً في كتابه مدارج السالكين فليُراجع، لذلك لا يجوز للإنسان أن يبقى في حال من الاضطهاد، والضعف، والعجز بحيث لا يستطيع أن يقوم بالعبودية، والأعمال التي تعبّده الله بها فضلاً عن أن يقوم بما هو أكثر من ذلك إذا كان يستطيع أن يبتعد عن ذلك.
هنا لم يحدد الله - تبارك، وتعالى - معنىً في السعة، فأقوال السلف التي ذكروها كلها تدخل في الآية سواء قيل: يجد سعة في الرزق، أو يجد سعة في العمل، أو يجد سعة في الصدر، أو يجد سعة في ألوان الهدايات، كل ذلك داخل فيه، ولذلك لا يخص معنىً دون معنى إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة، وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالماً: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك، وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة[3]
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب السهو في الصلاة، والسجود له (571) (ج 1 / ص 400).
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1) (ج 1 / ص 3)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال ( 1907) (ج 3 / ص 1515).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] (3283) (ج 3 / ص 1280)، ومسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2118).
- صحيح مسلم – كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2766).