الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [سورة النساء:100] هذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة، وملجأ يُتحصَّن فيه.
والمراغم: مصدر، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً، ومراغمة، وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض، وكذا روي عن الضحاك، والربيع بن أنس، والثوري، وقال مجاهد: مُرَاغَمًا كَثِيرًا [سورة النساء:100] يعني متزحزحاً عما يكره."

هذه العبارات - متزحزحاً، ومتحولاً، ويجد عوضاً - كل هذه عبارات متقاربة في معنى قوله: مُرَاغَمًا، وهذه اللفظة يلوح فيها معنى الإرغام، وذلك أن من يخرج من بيته مهاجراً إلى الله، ورسوله رغماً عن أنوف المشركين الذين يستضعفونه فإنه يجد في الأرض مجالاً واسعاً للانطلاق، والعمل في طاعة الله ، وما إلى ذلك مما يحصل به إعزاز الدين فيرفع رأسه، ويعمل من غير إهانة، ولا إذلال، فيكون عمله ذلك إرغاماً لأعدائه الكفار، ولعدوه الأول الذي هو الشيطان، ولذلك ذكر النبي ﷺ في سجدتي السهو إذا شك المصلي في صلاته أنه إذا كان، وقع له نقص كانت السجدتان تكميلاً لذلك النقص، وإن لم يكن فيها نقص فإنها تكون ترغيماً للشيطان[1].
كما أنه - عليه الصلاة، والسلام - رخص في التبختر بين الصفين في القتال، مع أن هذه الصفة مذمومة، لكن لما كان فيها إرغام للعدو، وإغاظة له لم تكن كذلك.
ومن أمثلة إرغام العدو ما ذكره تعالى بقوله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ الآية [سورة الحشر:5] حيث ختم الآية بقوله: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5] فكذلك إذا انتقل الإنسان، وتحول من حال الاستضعاف إلى حال يقوى فيها، ويستطيع أن يعمل بطاعة ربه - تبارك، وتعالى - ، وأن يقدم لدينه كان ذلك إرغاماً لعدوه.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم على عبودية المراغمة كلاماً جيداً في كتابه مدارج السالكين فليُراجع، لذلك لا يجوز للإنسان أن يبقى في حال من الاضطهاد، والضعف، والعجز بحيث لا يستطيع أن يقوم بالعبودية، والأعمال التي تعبّده الله بها فضلاً عن أن يقوم بما هو أكثر من ذلك إذا كان يستطيع أن يبتعد عن ذلك.
"قوله: وَسَعَةً [سورة النساء:100] يعني الرزق، قاله غير واحد، منهم قتادة حيث قال في قوله: يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [سورة النساء:100] أي والله من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى."

هنا لم يحدد الله - تبارك، وتعالى - معنىً في السعة، فأقوال السلف التي ذكروها كلها تدخل في الآية سواء قيل: يجد سعة في الرزق، أو يجد سعة في العمل، أو يجد سعة في الصدر، أو يجد سعة في ألوان الهدايات، كل ذلك داخل فيه، ولذلك لا يخص معنىً دون معنى إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
"وقوله: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ [سورة النساء:100] أي: ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما من الصحاح، والمسانيد، والسنن عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله، ورسوله، فهجرته إلى الله، ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه[2]، وهذا عام في الهجرة، وفي جميع الأعمال.
ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة، وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالماً: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك، وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة[3]، وفي رواية: أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها[4]."
  1. أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب السهو في الصلاة، والسجود له (571) (ج 1 / ص 400).
  2. أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1) (ج 1 / ص 3)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال ( 1907) (ج 3 / ص 1515).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] (3283) (ج 3 / ص 1280)، ومسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2118).
  4. صحيح مسلم – كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2766).

مرات الإستماع: 0

"مُرَاغَمًا [النساء:100] أي: متحوّلًا، وموضعًا، يرغم عدوه بالذهاب إليه".

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100] فسر المُراغم هنا بالمُتحَول، والموضع الذي يحصل به إرغام العدو، وأصل هذه المادة المُراغم: الراء، والغين، والميم يدل على المذهب، والمهرب.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في معناه: أنه حيثما ذهب وجد عنهم مندوحةً، وملجأً يتحصن فيه[1] يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100] يعني يجد العِوض، والبديل الذي يلجأ إليه، ويستطيع أن يعبد ربه - تبارك، وتعالى -.

وفسره ابن عباس - ا - بالتحول من أرضٍ إلى أرض[2] وكما ذكر ابن جُزي بمعنى متحولًا كما سبق، وهكذا جاء عن جماعة: الضَّحاك، والربيع، وسفيان الثوري - رحم الله الجميع -[3] وجاء عن مجاهد: مُتزحزحًا عما يكره[4] وهو بمعنى المُتحَول، يعني يجد في الأرض مُتَحولًا على رُغم أنفِ قومه الذين هاجرهم، هذا هو المشهور، وتكلم الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في (المدارج) على هذه العبودية - عبودية المُراغمة - وأنها محبوبة لله - تبارك، وتعالى - وأشار إلى سجدتي السهو فهي إرغامٌ للشيطان، كما جاء عن النبي ﷺ يقول: ومنه حُمد التبختر بين الصفين[5] لأنه إرغامٌ للعدو.

"وَسَعَةً [النساء:100] أي: اتساعٌ في الأرض، وقيل: في الرزق".

وَسَعَةً [النساء:100] اتساع في الأرض، وكذلك قيل: في الرزق، وقيل أيضًا: في الصدر، وغير ذلك، فالله - تبارك، وتعالى - قد أطلق ذلك يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100] سعة في الأرض، وسعةً في الرزق، وسعةً في الصدر، وسعةً في التنقل، والتحول، والتصرف، فلا يكون مقيدًا، هذا كله داخلٌ فيه، بل قال قتادة - رحمه الله -: والسعة يعني من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى[6] فكل ذلك داخلٌ فيه؛ لأن الله أطلقه، وهذا يُقال في كل زمان: أن المؤمن لا ينبغي أن يعيش في ذل، ومهانة في أرضٍ يسُتضعف فيها، وإنما ينتقل إلى أرضٍ يستطيع أن يعبد الله فيها، فيجد العِوض عن أرضه، وقومه، فمن الناس من يصر على حياة المهانة، والذل، وهذا غير صحيح إذا كان يجد العِوض، فأرضُ الله واسعة، فإذا ضاقت عليه ناحية انتقل، وتحول إلى غيرها.

"فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] أي: ثبت، وصح".

يعني ثواب من هاجر، وبلغ دار هجرته فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] فيكون كمن بلغ الناحية التي قصدها؛ لأنه قال: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] وهو لم يبلغ غايته، ومُهاجره، فالله يكمِّل له هذا العمل، ولا يضيع منه شيء، فيكون له ثواب من هاجر، وهذا من فضل الله - تبارك، وتعالى - ورحمته بعباده، أن يكمِّل لهم الأعمال، ويتممها، والنبي ﷺ قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى[7] وقد يبلغ بنيته ما لم يبلغ بعمله.

"وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ [النساء:100] الآية، حكمها على العموم، ونزلت في ضمرة بن العيس، وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضًا، فلمّا سمع ما أنزل الله في الهجرة، قال: أخرجوني، فهُيئ له فراشٌ، فوضع عليه، وخرج، فمات في الطريق[8] وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة[9]".

قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ [النساء:100] يقول: "الآية حكمها على العموم" يعني كل من كان بهذه الصفة، وهذا لا شك فيه، والعبرة بعموم الألفاظ، والمعاني، لا بخصوص الأسباب، هذا إذا صحَّ سبب النزول، يقول: "ونزلت في ضمرة بن القيس - وهو ضمرة بن جُندب - وهذا كان من المستضعفين بمكة، وكان مريضًا، فلمّا سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني، فهُيئ له فراشٌ، فوضع عليه، وخرج فمات في الطريق" لا بد من تتمة هذه الرواية، فنزل الوحي وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثم يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] فهذه التتمة هي التي تبين، وهي موضع الشاهد، وهي عبارة صريحة في سبب النزول، فنزل الوحي، وهذه الرواية لا تخلو من ضعف في طرقها، لكن بمجموعها تتقوى بمجموع الطرق.

وأما الرواية الثانية التي قال: "نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق، فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة" فهذا لا يصح، في إسناده رجلٌ مجهول، وآخر ضعيف، وعلى كل حال تحديد هذا لا يتوقف عليه المعنى، فهذا من النوع - أعني سبب النزول - الذي يترتب على معرفته فضيلة لمن نزلت فيه الآية، هذا إذا عُرف، فهذا ضمرة بن جُندب إذا كانت الآية نزلت فيه، فهذه فضيلة له، باعتبار أن ذلك شهادة له بصحة هجرته، وهذا يدل على صحة إيمانه، فهذه منقبة من مناقبه.

فمعرفة سبب النزول أحيانًا يدل على منقبةٍ، أو فضيلةٍ، وقد يتوقف عليه فهم المعنى، وقد يرتفع الإشكال، وقد يكون زيادة إيضاح، وقد لا يترتب عليه شيء.

ضمرة بن العيس؟

لا، هو ضمرة بن جُندب بن القيس.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/391).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/119-10296).
  3. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/1049) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/391).
  4.  المصدر السابق.
  5.  مدارج السالكين لابن القيم (1/40).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/121-10308).
  7.  أخرجه البخاري في كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ برقم: (1) ومسلم في كتاب الإمارة، قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية برقم (1907).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/114-10282) والصحيح المسند من أسباب النزول (ص:77) لكن اسمه: ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، أو ضمرة بن جندب.
  9.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/1050-5888) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/392).