"وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال:
أولها: أنها في قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر؛ ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف [وفي النسخة الخطية: وأن ذلك لا يجوز إلا في حال الخوف] على ظاهر الآية، وهو قول عائشة، وعثمان - ا -.
الثاني: أن الآية تقتضي ذلك، ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة".
قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] فقوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101] هذا أخذ منه الجمهور أن القصر ليس بواجب؛ لأنه نفى الحرج عنهم، وليس ذلك من صيغ الوجوب، فهذا قول الجمهور خلافًا للظاهرية الذين يقولون: بوجوب القصر، وأن الصلاة لا تصح إذا كانت تامة في السفر، لا يصح الإتمام.
وقوله - تبارك، وتعالى -: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] فهذا يحتمل كما ذكر المؤلف، فهو بمعنى قصر الكيفية، بمعنى أنه يجوز فيها ما لا يجوز في صلاة الأمن، هذا في صلاة الخوف، كأن يصلي مع الإمام ركعة، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه ركعة، كصلاته إيماءً، ركبانًا، ومشاةً، فهذا قصرٌ في الكيفية.
وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أن ذلك بمعنى التخفيف في الصلاة من كميتها بأن تُجعَل الرباعية ثنائية وحمله أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - على قصر حدودها بترك إتمام الركوع، والسجود، والاستقبال، وذلك حال المسايفة وبه قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - من المعاصرين يعني قصر حدود الصلاة بترك الإتمام للركوع، والسجود، ونحوه في حال المسايفة، ويحصل في صلاة الخوف من التخفيف ما لا يكون في غيرها.
وكلام هؤلاء يدور على الكيفية، والكمية، الكمية يعني عدد الركعات، فبعض السلف قال: بأن صلاة الخوف يُجتزئ فيها بركعة واحدة، وهنا يقول الله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] وهنا الضرب في الأرض لا يختص بالجهاد كما هو معلوم، بل قد يذكر الله - تبارك، وتعالى - هذا باعتبار أن المراد به السفر للتجارة، ونحوها، ويذكر أيضًا الجهاد، والقتال في سبيل الله، فهذا الضرب في الأرض يشمل الجهاد، ويشمل غيره من الأسفار؛ ولهذا فهم منها طوائف من أهل العلم أن ذلك في قصر الصلاة في السفر، وأن هذا القيد - أعني قوله - تبارك، وتعالى -: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] لا مفهوم له، مفهوم المخالفة حجة، لكن هنا لا يعتبر، مفهوم المخالفة باعتبار أنه أحد المواضع التي لا يُعتد فيها بمفهوم المخالفة، من جهة أنه نزل على وفاق حالٍ، وواقعٍ معين، يعني أن الخوف كان غالبًا في ذلك الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية، فقال: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] ولهذا - كما سيأتي - لمّا سُئل عمر : قد أمن الناس، فذكر أنه سأل عنها النبي ﷺ فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أنها لا تختص بحال الخوف، ولا بصلاة الخوف، وإنما هي في قصر الصلاة، فقصر الصلاة تارةً يكون بالكم - بالكمية - كما في السفر يصلي ركعتين - أعني الرباعية - فهذا قصرٌ للكمية، وهكذا على قول طوائف من أهل العلم: بأنه في حال الحرب، والخوف يقصر بالكمية، فيجتزئ بركعةٍ واحد ة.
وأما القصر - قصر الكيفية - فهذا بالنسبة للسفر من غير حرب، ولا خوف يكون قصر كيفية، قصر في حدودها، فهذا يكون في السفر من غير الحرب، والخوف لصلاة النافلة، يصلي على راحلته حيثما توجهت به إيماءً، فيسقط عنه الاستقبال في النافلة، ويسقط عنه أيضًا الركوع، والسجود، فيصلي إيماءً، وأما بالنسبة للخوف فإنه يصلي بحسب حاله، إذا كان في حال المسايفة يصلي إيماءً، ويسقط عنه الركوع، والسجود، وأما إذا كان يتأتى له أن يركع، ويسجد فجاء ذلك على صفاتٍ متنوعةٍ متعددة، فكل ما صحَّ فيه فهو من أوصافه، ويكون ذلك من الصيغ، والصور الشرعية لصلاة الخوف، وكل هذا الصور التي صحَّت عن رسول الله ﷺ صحيحة؛ وذلك من توسعة الله على عباده، بحيث إنهم يصلون بحسب حالهم، إذا كان العدو أمامهم، أو كان العدو خلفهم، أو كانوا في حالٍ أخرى، فهذه الصلاة يسوغ فيها ما يمكن أن يحتاج إليه، كالالتفات مثلًا، بل كان النبي ﷺ يصلي بأصحابه، ويلتفت إلى ناحية الوادي، حيث أرسل طليعةً - عليه الصلاة، والسلام - أو أرسل رجلًا عينًا على الكفار فكان يلتفت إلى تلك الناحية، وهو يصلي بأصحابه، مع أن الالتفات في الصلاة لا يجوز، فمثل هذا يسوغ في مثل تلك الأحوال، وهذا من رحمة الله - تبارك، وتعالى -.
فإذا حُمل قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] على صلاة الخوف، فيُقال: أنه يجوز فيها ما لا يجوز في صلاة الأمن.
قال: "اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال:
أولها: أنها في قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر؛ ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف على ظاهر الآية، وهو قول عائشة، وعثمان - ا - ".
وذكر عندكم في الحاشية عن ابن جرير أثر عائشة - ا - تقول في السفر: أتموا صلاتكم، إن رسول الله ﷺ كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟ ولكن هذا لا يصح عن عائشة - ا - وهو غريب، فكيف يخفى عليها حال النبي ﷺ وكانت تذهب معه، وتخرج في بعض مغازيه، وأسفاره؟
وكذلك ما جاء عن عثمان قال: إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارةٍ، وإما لجباية - جباية خراج، أو نحو ذلك - يعني من غير خوف، وإما لحشرٍ - يعني حشر الناس الأجناد، وللقتال، ونحو هذا - ثم يقصرون الصلاة، إنما يقصر من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو والمشهور عن عثمان أنه أتم بمكة، كما هو معلوم في الحج، بعض أهل العلم حمل ذلك على أنه كان قد تأهل بمكة، لا أنه ينكر القصر في السفر.
وبعضهم قال: خشي أن يفهم الأعراب، ومن يرد الموسم ممن لا فقه له، ولا علم، ولا بصر أن الصلاة الرباعية تُصلى ركعتين فقط، وهكذا شُرعت، فخشي من هذا، فكان يتم متأولًا.
ولا شك أن القصر في حال الأمن ثابت عن رسول الله ﷺ وكان النبي ﷺ إذا خرج من المدينة لا يزال يقصر حتى يرجع إليها، فقصر بمكة - عليه الصلاة، والسلام - ولم يكن في حال خوف، وقصر - عليه الصلاة، والسلام - في أسفاره عمومًا، وكان في بعضها آمن ما يكون، فهذا القول الأول: أنها في قصر الصلاة الرباعية، وهذا يدخل في هذه الآية، لكن القول بأن ذلك لا يكون إلا في حال الخوف بناءً على ظاهر الآية، فهذا غير صحيح، قلت لكم: بأن مفهوم المخالفة غير معتبر، ففي قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] هذا مفهوم شرط، وهو من أقوى أنواع المفاهيم، يعني يأتي مفهوم الشرط ربما في الدرجة الثالثة من درجات القوة، مفهوم المخالفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، لكن هنا غير معتبر بناءً على ما ذكرت: أنه داخل في إحدى الحالات التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، وهو أن ذلك نزل على وفاق واقعٍ معين، وذكرتُ أمثلة له في بعض المناسبات: كقوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] فعلى معنى مشهور في الآية، وإلا فالآية في تفسيرها قيل غير ذلك - لو أنه اتخذ الكافرين مع المؤمنين ليس من دون المؤمنين فهذا لا يحل، إذًا مفهومه هنا لا يُعتبر؛ لأنه نزل على وفاق واقع معين، وهكذا في قوله في سورة النور: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] هذا مفهوم شرط، ولا عبرة به؛ لأنه نزل على وفاق واقع معين، وهو أن عبد الله بن أُبي كان له جارية، فكان يكرهها على البغاء، فنزلت الآية لكن لو كانت لا تريد التحصن، فلا يجوز أن يمكِّنها من البغاء.
وفي هذا الشرط هنا إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - نحوًا من هذا، فقال: قد يكون هذا خرج مخرج الغالب ويمكن أن يكون هذا توجيه آخر لهذا الشرط إِنْ خِفْتُمْ [النساء:101] يعني باعتبار أن هذا هو الغالب، لكن حال نزول هذه الآية في مبدأ الإسلام بعد الهجرة، يقول: "كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزوٍ عام، أو في سريةٍ خاصة، وسائر الأحيان حربٌ للإسلام، وأهله" بمعنى أن هذا يرجع إلى أصل المعنى الذي أشرت إليه، وهو أن ذلك نزل على وفاق واقع معين، يقول: "والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثةٍ فلا مفهوم له" على حادثة يعني على وفاق الواقع، فلا مفهوم له.
"الثاني: أن الآية تقتضي ذلك، ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة، ويُؤيد هذا حديث يعلى بن أمية، قال: قلتُ لعمر بن الخطاب: إنّ الله يقول: إِنْ خِفْتُمْ [النساء:101] وقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألتُ رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته وقد ثبت أن النبي ﷺ قصر في السفر، وهو آمن".
وهذا لا شك فيه، وجاء أيضًا عن أبي حنظلة الحذَّاء، قال: سألتُ ابن عمر - ا - عن صلاة السفر، فقال: ركعتان، فقلتُ: أين قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله ﷺ يعني، وإن كان ظاهر الآية قد جاء التقييد فيه في حال الخوف، لكن السنة دلَّت على أنها تُقصر كذلك في حال الأمن.
وجاء في الصحيح عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، وسُئل أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا.
وكذلك أيضًا حارثة الخزاعي - حارثة بن وهب - يقول: صليت مع النبي ﷺ الظهر، والعصر بمنى أكثر ما كان الناس، وآمنه ركعتين قوله: "أكثر" أي: أوفر ما وُجد من الناس في حجه ﷺ حيث اجتمع ما لم يجتمع في مناسبةٍ سواها، أكثر من مائة ألف، وكانوا آمن ما يكونون، يقول: "صليت معه ركعتين" ومعروف أن النبي ﷺ كان يصلي في منى ركعتين، يقصر الصلاة، وقصر أيضًا في عرفة، وفي مزدلفة، وهو آمن - عليه الصلاة، والسلام - وصارت مكة دار إسلام، فيُحمل على ما ذُكر، ولا يُقيَد بالخوف.
"الثالث: أنّ قوله: إِنْ خِفْتُمْ [النساء:101] راجعٌ إلى قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102] الآيةُ التي بعد ذلك، والواو زائدةٌ، وهذا بعيد".
يعني فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101] إِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] هذا بعيد، وحتى القول الذي قبله: بأن الآية تقتضي تقييد ذلك في حال الخوف، وأن القصر يؤخذ من السنة، فقد يُقال أيضًا: حتى الآية - كما سبق - باعتبار أن ذلك جرى على الغالب في أسفارهم، حيث يغلب الخوف، أو أن ذلك باعتبار وفاق الواقع.
"الرابع: أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفةٍ ركعةً خاصة، قال ابن عباس: فُرضت الصلاة في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".
هذا - كما سبق - باعتبار أن صلاة الخوف يحصل فيها قصرٌ بالكم، فهذا قول ابن عباس - ا - وهو في صحيح مسلم: فُرضت الصلاة في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة الصلاة ركعة في الخوف، وهذا قال به الإمام أحمد - رحمه الله - وقال به جماعة من السلف قبله: كعطاء، وجابر بن زيد، والحسن البصري، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحمَّاد، وطاووس، والضَّحاك وكان محمد بن نصر يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم، وحمله، أو خصَّه إسحاق بن راهويه بحال المسايفة فيجزئه ركعة واحد ة، يومئ بها إيماءً، فإن لم يستطع فسجدة واحد ة؛ لأنها ذكر الله، ومعنى: سجدة واحد ة يعني يصلي بحسب ما يمكنه، فالقول بأن ذلك يكون في ركعةٍ واحد ة هذا كما ترون في صحيح مسلم عن ابن عباس - ا - وقد يكون ذلك أحد صفات صلاة الخوف، أنه قد يجتزئ بركعة بحسب حاله، وقد يُقيدُ ذلك في الصبح، وقد يُضطر إليه في غيرها، والله - تبارك، وتعالى - ما جعل على هذه الأمة من حرج.
"الخامس: أنها في صلاة المسايفة، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة [وفي النسخة الخطية: فالقصر على هذا هو من هيئات الصلاة] كقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا [البقرة:239] وإذا قلنا: إنها في القصر في السفر، فظاهرها أن القصر رخصةٌ، والإتمام أفضل، وهو مذهب الشافعي وقال مالك: القصر أفضل وقيل: إنهما سواء، وأوجب أبو حنيفة القصر".
تقييد ذلك أنها في صلاة المسايفة هذا فيه نظر، والآية ليس فيها ما يدل على هذا القيد، والقصر من هيئة الصلاة بمعنى أنه يصلي إيماءً مثلًا، فهذا أيضًا ليس في الآية ما يدل عليه، وأن يكون هذا هو المعنى، والمراد الذي تُحمل عليه الآية - والله أعلم - .
وأما القصر في السفر من غير خوف فالقول: بأنه رخصة، والإتمام أفضل، فهذا فيه نظر، فقد ثبت عن عائشة - ا - أن الصلاة شُرعت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأُقرَّت صلاة السفر والنبي ﷺ ما كان يتم الصلاة في السفر قط، ولا شك أن هديه - عليه الصلاة، والسلام - أكمل الهدي، وذلك يدل على المشروعية، لكن هل ذلك للوجوب فيجب القصر؟ الذي عليه الجمهور أن ذلك لا يجب خلافًا للظاهرية حيث أبطلوا الصلاة على الإتمام، وخلافًا للحنفية الذين أوجبوا القصر فالجمهور على أن ذلك يُستحب، وهو الأفضل، والأكمل حتى يرجع، فهذا ما يتعلق بهذه الجزئية.
وتطرَّق المؤلف إلى قضايا أخرى تتعلق بالصلاة، والقصر، لكن هذه الأقوال الخمسة التي ذكرها لو قيل: بأن هذه الصلاة المذكورة، أو هذا القصر المذكور يشمل القصر في السفر حال الأمن، فيكون قصرًا بالكمية، فتُصلى الرباعية ركعتين، ويكون قصرًا أيضًا بهيئتها بالنسبة للنافلة، ويصليها إيماءً، فيومئ بالركوع، والسجود، ويسقط عنه استقبال القبلة، فهذا كله في السفر، وأما ما يتعلق بالصلاة في حال الخوف، والحرب، ونحو ذلك فهذا قد يكون قصرًا للكمية، وقد يجتزئ بركعة، وقد يصلي الرباعية ركعتين، وقد يكون ذلك أيضًا في الهيئة فيصلي إيماءً في حال المسايفة، وهذه تفاصيلها - كما هو معلوم - في كتب الفقه، وما ذكره الله - تبارك، وتعالى - من صلاة طائفةٍ معه، ثم تحول هذه الطائفة، هل معنى ذلك أنهم اجتزئوا بهذه الركعة التي صلوها، أو أنهم يتمون لأنفسهم ركعة؟ فهذا يحتمل، والعلماء - رحمهم الله - مختلفون في هذا، واختلافهم فيه مشهور، يعني هل كل طائفة تصلي مع النبي ﷺ ركعة واحد ة فقط، ثم تنصرف، أو أنهم يتمون لأنفسهم ركعةً أخرى؟ ففي بعض الروايات لا يدل على أنهم أتموا، فظاهرها ليس فيه الإتمام، وقد يُفهم من رواياتٍ أخرى غير ذلك، وعلى كل حال هذا موضعه كتب الفقه.
"وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي يُقصر فيها؛ لأن قوله: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101] معناه السفر مطلقًا؛ ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفرٍ طويلٍ، أو قصير ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانيةٌ، وأربعون ميلًا، واحتجوا بآثارٍ عن ابن عمر، وابن عباس".
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101] كما قال الله : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] بمعنى السفر للتجارة، ونحو ذلك، ويشمل أيضًا السفر للجهاد، وقوله هنا: "بأنه ليس في الآية ما يدل على مقدار المسافة التي يُقصر فيها" هذا صحيح، والذين حددوا المسافة أخذوا ذلك من وقائع أعيان، يعني قصر فيها النبي ﷺ وكذلك أيضًا استنباطًا من بعض الأحاديث، كالتي يذكر فيها النبي ﷺ أنه لا يحل للمرأة أن تسافر مسيرة كذا، وكذا إلا ومعها ذو محرم، فبعضهم فهم من مثل هذه الأحاديث تحديد المسافة، وليس في نصوص الكتاب، والسنة فيما أعلم نص صريح واضح في تحديد المسافة في السفر من أجل القصر، وهذه مسألةٌ يكثر وقوعها، وتعم بها البلوى، وما كان من هذا القبيل، فإن من شأن الشارع، ومن عادته أن يبين ذلك، ويجلِّيه، فلمّا تُرك هكذا بإطلاق، فكأنه يدل - والله تعالى أعلم - على أن ما كان من قبيل السفر فتجري فيه أحكامه، فما كان في عرف الناس من قبيل السفر فتجري فيه الأحكام، وهذا ليس محل اتفاق، ونجد مثلًا عن ابن عباس - ا - التفريق بين السفر إلى ناحيةٍ، أو ناحيةٍ أخرى، كالطائف مثلًا، فعدَّ ذلك من قبيل السفر - وعلى كل حال - يقول: "معناه السفر مطلقًا؛ ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفرٍ طويلٍ، أو قصير" لكان لو يُقيد بما كان في عرف الناس الغالب، وليس عرف الأقل من الناس، فإن لم يوجد عرفٌ غالب، أو كان ذلك مترددًا - يعني عند الناس - بين كونه سفرًا، أو ليس بسفر، فيُغلَّب جانب الإقامة؛ لأنها هي الأصل.
هل الذهاب إلى الجبيل يُعد سفرًا، أو لا؟
بصرف النظر عن المسافة، إذا قلنا: يُنظر إلى العرف - عرف الناس - فما هو العُرف؟ إذا كان ذلك مترددًا عند الناس، فمنهم من يعتبر ذلك من قبيل السفر، ومنهم من يعتبر ذلك على خلافه، وليس هناك عُرفٌ غالب، فماذا نغلِّب؟ نغلب جانب الإقامة، ولو كانت المسافة مسافة سفر، وهكذا الذهاب من هنا إلى مثل: صلاصل، وجوف بني هاجر[mk1] هل يعتبر سفر هذا، أو ليس بسفر؟ هو متردد عند أهل تلك الناحية، فبعضهم يقصر، وبعضهم لا يقصر، وليس هناك عرف غالب مع أن المسافة تبلغ الثمانين، أليس كذلك؟ فمثل هذا يُغلَّب فيه جانب الإقامة، إذا تردد بين كونه سفرًا، أو ليس بسفر غلَّبنا جانب الإقامة؛ لأنها الأصل، والسفر عارض، وهكذا، السفر إلى البحرين لا يبلغ قطعًا هذه المسافة التي حددها كثير من الفقهاء، وهي الثمانون، مع أن الثمانين ليست محل اتفاق، بعضهم يذكر دون ذلك، وبعضهم يذكر أكثر منه، وهذا التحديد الدقيق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية لم تأت بمثله الشريعة يعني مثلًا أن هذا التحديد بثمانين لو أنه بقي على الحد - حد الثمانين - إذا انقلب إلى هذه الناحية كان مسافرًا، وإذا انقلب إلى الناحية الأخرى كان مقيمًا، والشريعة ما جاءت بمثل هذا - والله تعالى أعلم -.
لكن هذا يقول به كثير من أهل العلم، يقول: "ومذهب مالك، والشافعي أن مسافة القصر ثمانيةً، وأربعون ميلًا، واحتجوا بآثار عن ابن عمر، وابن عباس" وورد عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة بُرد، هذا ذكره البخاري تعليقًا، وقال: هي ستة عشر فرسخًا ووصله الحافظ في "تغليق التعليق" والفرسخ ثلاثة أميال، وكذلك عن ابن عباس - ا - كما جاء عن عطاء بن أبي رباح قلت لابن عباس: أقصرُ إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف، وعُسفان وذلك يبلغ ثمانيةً، وأربعين ميلًا، لو حسبت هذه المقادير التي وردت بمثل هذه المنقولات، والآثار ستجد أنها تتفاوت، تزيد على الثمانين، وتنقص - والله أعلم -.
س: شيخنا - أحسن الله إليك - فيما يتعلق بالعُرف، إذا تردد العرف بين الإقامة، والسفر هل يُقال بأنه يتم؛ لأن الأصل الإقامة؛ ولأن من قصر هناك فهناك من يبطل صلاته، ولكن من أتم فلا تبطل صلاته؟
نعم، يكون ذلك أحوط للعبادة، وأبرأ للذمة في مثل هذا، والعمل بالأحوط يكون معتبرًا في مثل هذا، والعمل بالأحوط كما هو معلوم لا يعتبر دائمًا، لكن في مثل هذا يعتبر، ويكون ذلك أيضًا من الورع الصحيح، وشيخ الإسلام يقول: الذين يترددون في كل يوم، فيذهبون، ويجيئون في ناحيةٍ تُعد في العُرف من قبيل السفر، أو عند من يحددون ذلك بمسافة معينة، فليس لهؤلاء حكم المسافر ولا يُقال: إنه سافر، فهذا الذي يذهب لدراسة، أو عمل، ويرجع بيومه إلى الأحساء مثلًا، على قول شيخ الإسلام: هذا لا يكون سفرًا، وكذلك لو أن أحدًا يرى أن الذهاب إلى الجبيل مثلًا سفرًا، فالمتردد كل يوم على قول شيخ الإسلام ليس بمسافر، وهذا قد لا يخلو من إشكال - والله أعلم -.
وظواهر النصوص الإطلاق، والمقصود بذلك التوسعة على الناس، ورفع الحرج عنهم، ولو كان يتردد، وذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أيضًا فيمن يكون كالرعاة، ومن يطلبون الكلأ، ونحو هذا، أو قل مثل هذا الآن فيمن يذهب للتنزه، وهو لا يريد ناحيةً بعينها يقصدها تُعد من قبيل السفر، ولكنه يتبع الكلأ، أو يتبع الصيد، أو يتنزه، ثم، وجد نفسه قد بلغ إلى نواحي تُعد في العرف من قبيل السفر، أو أنها في تحديد المسافة تُعد من قبيل السفر، عند من يحدد ذلك بالمسافة، فمثل هذا لا يكون مسافرًا، كمن يبحث عن شيء، ووجد نفسه قد جاوز، ووصل إلى أماكن ما كان يقصدها، فلا يكون مسافرًا بهذا الاعتبار - والله أعلم -.
"وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة، أو السفر المباح، دون سفر المعصية، فإنّ لفظها مطلقٌ في السفر؛ ولذلك أجاز أبو حنيفةَ القصر في سفر القربة، وفي المباح، وفي سفر المعصية ومنعه مالكٌ في سفر المعصية ومنعه ابن حنبل في المعصية، وفي المباح وللقصر أحكامٌ لا تتعلق بالآية، فأضربنا عن ذكرها، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال، أو التعرض [وفي النسخة الخطية: والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال، والتعرض] بما يُكره".
فيما يتعلق بسفر المعصية، والسفر المباح، وسفر القربة، هذه ثلاثة أنواع في السفر، أما القربة فلا شك أنه يقصر كالحج، والعمرة، والجهاد، أما السفر المباح كالتجارة، والنزهة المباحة فهذا من أهل العلم من منع منه، والأقرب أن ذلك يُقصر فيه؛ لأن الآية جاء فيها الإطلاق وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101] فلم يُقيد ذلك بنوعٍ من السفر، لكن سفر المعصية من نظر إلى ظاهر الآية قال: إنه يقصر؛ لأنه مسافر، ومن منع فإنه لم يأخذ ذلك من الآية، وإنما أخذها من ملحظٍ، ومأخذٍ آخر، وهو أن القصر تخفيف، وتيسير، وهذا الذي سافر للمعصية لا يُعان، وليس بأهلٍ للرخصة، والتخفيف، فيكون ذلك عونًا له على معصيته، هذا مأخذ من منع العاصي من الترخص، سواءً كان ذلك في القصر، أو كان في الفطر في رمضان، وأولئك نظروا إلى أنه سفر من حيث هو، وأن المعصية جهةٌ منفكة عن السفر.
يقول: "المراد بالفتنة في هذه الآية القتال، أو التعرض بما يُكره" يعني الأذى، والمباغتة، أو القتل.