الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوٓا۟ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا۟ فَلْيَكُونُوا۟ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا۟ فَلْيُصَلُّوا۟ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا۟ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓا۟ أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا۟ حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:102].
صلاة الخوف أنواع كثيرة".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا لم يعتنِ ببيان الألفاظ، وإنما تكلم على صلاة الخوف إجمالاً.
قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ [سورة النساء:102] هذا الخطاب لا يختص بالنبي ﷺ بل هذا في صلاة الخوف عامة.
وإذا قلنا: إن الآية الأولى في قصر الكيفية - على قول ابن جرير - أعني قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] فهذه الصلاة فيها ركوع، وسجود، وهي في قصر الكمية سواء على قول من قال: إن صلاة الخوف تكون ركعة لكل طائفة - وهو قول معروف قال به كثير من الصحابة ومن بعدهم -، أو من قال: إن الرباعية تصلى مقصورة.
يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] هذا كقوله : فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:103] فهناك على قول ابن جرير في حال المسايفة والالتحام مع الأعداء، وعلى قول الجمهور تكون هذه في بيان صفة صلاة الخوف كيف تصلى، فالله ذكر صفة من صفاتها، وقد ورد لها صفات متعددة في السنة ربما تصل إلى سبع صفات أو أكثر، وذلك كله يفعل بحسب حالهم، وحال عدوهم، وما يحتاجون إليه توسعة من الله .
قوله تعالى: فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] هذا الخطاب ظاهره أنه موجه للطائفة التي تقوم تصلي مع أنه يحتمل - كما قال بعض المفسرين - أن الخطاب موجه للطائفة التي تقوم مواجهة للعدو أي التي تحرس، ويحتمل أن يكون الخطاب موجهاً للجميع، والظاهر - والله أعلم - أنه يعود للطائفة المتحدث عنها وهي الطائفة التي تقوم تصلي معه؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، والمعنى أن هذه الطائفة التي تصلي يحمل أفرادها السلاح؛ ولهذا رخص الله لهم في حال المطر، والمرض؛ أن يضعوا أسلحتهم، وأما الطائفة الأخرى فلا يفهم إطلاقاًَ أنها لا تحمل السلاح؛ لأنه إذا كان الذين يصلون يحملون السلاح، فحمل السلاح بالنسبة للحراس من باب أولى؛ فالذين يقفون إنما يقفون للحراسة فلا حاجة لتنبيههم على حمل السلاح، فالمقصود أن الجميع يحملون أسلحتهم - الذين يصلون، والذين يحرسون - لكن ذكر الذين يصلون؛ لأن انشغالهم بالصلاة مظنة لوضع السلاح، فأمرهم الله بحمله.
ثم قال: فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ [سورة النساء:102] يعني الذين يحرسون، وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ [سورة النساء:102] يعني هؤلاء يصلون معه ركعة ثم يتأخرون، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس، وتتقدم، وتصلي معه ركعة - على اختلاف في الصيغ، والصور، والهيئات، والكيفيات - إما على قول من قال: إنه تجزئهم ركعة واحدة، وإما على قول من قال: يصلون ركعتين، والمقصود أنهم - على القول بركعتين لكل طائفة - يتراجعون، ويتقدم الآخرون فيصلون مع النبي ﷺ ركعة ثم يتمون لأنفسهم ركعة، وأولئك يتمون لأنفسهم ركعة، فتكون ركعة مع النبي ﷺ وركعة منفردين، وهذا كله يدل على أهمية صلاة الجماعة، كما يدل هذا على أن المجاهد أحوج ما يكون للارتباط بالله - تبارك وتعالى -؛ فأين الذي ينام على فراشه والناس يصلون؟!
يقول تعالى: وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] يلاحظ أنه أمر بأخذ الحذر عند ذكر الطائفة الثانية، ولم يذكره مع الطائفة الأولى، والسبب - والله أعلم - هو أن العدو إذا رأى الجميع يحمل السلاح ظن أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا له، فإذا تبيّن له أنهم يصلون لما يرى من التأخر، والسجود، والركوع، والتبديل بعد ذلك؛ فإنه قد يقدم عليهم، ويهاجمهم؛ لذلك أمرهم بأخذ الحذر.
ويحتمل أن يكون السبب هو أن الطائفة الأخرى هي الأحرى بمزيد من الحذر؛ لأن العدو إنما يريد أن يهاجمهم قبل الفراغ من الصلاة، وفرصته تكون مواتيه وهم يصلون، وهو لا يريد أن يفوت هذه الفرصة، فأمرت الطائفة الأخرى بالحذر؛ لأنها آخر فرصة للعدو للإغارة؛ حيث إنهم إذا سلموا من الصلاة، وانصرفوا؛ انتهى مقصود العدو الذي كان يتربص بهم، ويعرف أن لهم صلاة هي أحب إليهم من كل شيء، فالهجوم سيكون في الصلاة، فالمقصود أنه يمكن أن يقال هذا والعلم عند الله ، وعلى كل حال فإن مثل هذه القضايا يستنبطها العلماء - رحمهم الله - فقد تكون صحيحة، وقد لا تكون، لكن لها وجه فيما يبدو، وإن كان عند التأمل يمكن أن يستخرج غير هذا السبب، فالله أعلم.
"صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية وتارة ثلاثية كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ورجالاً، وركباناً".

طبعاً هذا المعنى يحمل على الآية السابقة: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] بناء على قول ابن جرير بأن المراد بالقصر قصر الكيفية، وعليه تكون هذه الآية في حال كونهم يستطيعون إقامتها بالركوع، والسجود، والله أعلم.
"ولهم أن يمشوا والحالة هذه، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة.
ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس - ا -: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم -ﷺ في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة" [رواه مسلم وأبو داود، والنسائي وابن ماجه] وبه قال أحمد بن حنبل.
قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، وإليه ذهب طاوس والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً.
وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزئك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله".

طبعاً ليس مقصود ابن راهويه بسجدة واحدة أنها ركعة - باعتبار أن الركعة يعبر عنها بالسجدة أحياناً -، وإنما قصد هنا السجود المعروف، والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: ولنذكر سبب نزول هذه الآية أولاً قبل ذكر صفتها:
روى الإمام أحمد عن أبي عياش الزُّرَقي قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر، والعصر: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] قال: فحضرت فأمرهم رسول الله ﷺ، فأخذوا السلاح، فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون، فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف، قال: فصلاها رسول الله ﷺ مرتين، مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم" وهكذا رواه أبو داود والنسائي وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".

فهذه الصفة التي جاءت في حديث أبي عياش الزُّرقي حينما صلى النبي ﷺ بعسفان هي إحدى الصفات الواردة في صلاة الخوف، فصلاة الخوف جاءت بصفات متعددة بحسب حال المسلمين مع عدوهم؛ توسعة من الله - تبارك وتعالى - عليهم، وهذه الصفات ربما تزيد على الثمان أو نحو ذلك، إذا اعتبرنا التداخل الموجود في بعض الروايات وإلا فإن الروايات في ذلك كثيرة، حتى إن بعض أهل العلم كابن حزم يذكر في ذلك ستة عشر وجهاً، وبعضهم يزيد عليه، مع أن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: صلاها النبي ﷺ عشر مرات، وفي المقابل يقول ابن العربي المالكي: إن النبي ﷺ صلاها أربعاً وعشرين مرة، فعلى كل حال إذا طرحت الروايات الضعيفة، وطرح التداخل الموجود في بعض الصفات؛ فإن العدد سيكون أقل من هذا بكثير - والله تعالى أعلم -، فهي بحسب حال العدو.
ومن أسهل هذه الصفات، وأوضحها أن ينقسم القوم إلى قسمين، فيصلي الإمام بطائفة منهم ركعة إذا كانت الصلاة ثنائية مثلاً -كصلاة الفجر- ثم يقوم، فتتم هذه الطائفة لنفسها ركعة ثم ترجع في مواجهة العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم ركعة ثم يجلس في التشهد حتى يتموا لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون معه.
ومن الصفات القريبة من هذه أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم تبقى قائمة في مقابلة العدو وهي في الصلاة، ثم تأتي الطائفة الأخرى وتصلي معه ركعة، ثم تتم كل طائفة لنفسها، ويكون هذا الإتمام بالتناوب، بمعنى أنهم لا يتمون معاً، وإلا ذهبت فائدة مشروعية صلاة الخوف.
ومن صفات صلاة الخوف إذا كان العدو بينهم وبين القبلة أن يصطفوا على صفين، فيصلوا جميعاً مع الإمام، ثم يركعوا ويرفعوا من الركوع معه، فإذا جاء السجود سجد الصف الأول ويبقى الصف الثاني قائماً، ثم يتقدم الصف الثاني في الركعة الثانية، ويتأخر الصف الأول، ثم يركعون ويرفعون معاً، فإذا جاء السجود سجد الصف الأول - الذي كان هو الصف الثاني في الركعة الأولى - ويبقى الصف الثاني في قيامهم - الذي كان هو الصف الأول في الركعة الأولى -، فإذا فرغوا من سجودهم سجد الصف الثاني، ثم يتشهدون معه جميعاً، وينصرفون جميعاً.
ومن الصفات أن يصلي بهؤلاء ركعتين، ويسلم بهم، ثم يصلي بالطائفة الأخرى ركعتين جديدتين، وينصرف بهم، وتكون الصلاة بالثانية بالنسبة إليه نافلة، وهكذا إذا كانت الصلاة ثلاثية - المغرب - يصلي بهؤلاء ثلاث ركعات، وينصرف، ويصلي بأولئك ثلاث ركعات، وينصرف، وكل هذا ثابت عن رسول الله ﷺ.
وإذا كانت الصلاة من ركعتين فإنه ينتظر الطائفة الثانية وهو قائم، وإذا كانت الصلاة من أربع ركعات فإنه ينتظر في التشهد الأول، وإذا كانت الصلاة من ثلاث ركعات فينتظر في التشهد الأول، يعني أن الطائفة الثانية تصلي معه ركعة واحدة.
كما ثبت أيضاً من حديث حذيفة أن النبي ﷺ صلى صلاة الخوف ركعة واحدة، وهذه الصيغة ثابتة وصلاها حذيفة حينما كانوا بطبرستان، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذه الصفات بحسب الحال ففي حال الخوف الشديد، أو في حال الالتحام؛ يصلون إيماء من غير استقبال، ولا ركوع، ولا سجود، وإذا كانوا في حالة أخرى فينظر في مقامهم، وشدة الخوف، وموقع العدو؛ فيختارون الصفة التي تكون أليق بالحال فيصلون بها.
ومن أهل العلم - كما سبق فيما أورده الحافظ ابن كثير عن إسحاق بن راهويه رحمه الله - من يرى أنه يصلي ركعة، فإن لم يستطع فسجدة، فإن لم يستطع فبتكبيرة الإحرام؛ لأنه ذكر لله كما قال إسحاق - رحمه الله - فالمقصود أن كل هذه الصفات، والصور؛ لصلاة الخوف ثابتة، وصحيحة، والله تعالى أعلم.
يقول أبو عياش: "فحضرت" يعني صلاة العصر"فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح، فصفنا خلفه صفين" طبعاً أخذ السلاح واجب؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب في قوله: وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] إلا إذا كان لهم عذر من مطر، أو جراح، أو مرض أو نحو ذلك ولا يبلغ هذا أن يكون شرطاً لصحة الصلاة كما قال بعض أهل العلم مثل داود الظاهري - رحمه الله - حيث يقول: إن حمل السلاح من شروط صحة صلاة الخوف، وذلك أن لها شروطاً منها: أن تكون في حال الخوف، واشترط بعضهم أن يكون ذلك في السفر، ولا تصح في الحضر، وعلى كل حال هذه الشروط منها ما هو مختلف فيه، لكن عامة أهل العلم يرون أنها تصح من غير حمل السلاح لكن يجب أخذه، فالقول بأن ذلك من شروط الصحة قول بعيد، والله تعالى أعلم.
يقول: "فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون، فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء" يعني أن الجميع يصلون حتى حينما تقدموا لكن من أجل أن يحصل لهؤلاء سجود معه ابتداء من غير تأخير يتقدم هؤلاء، ويتأخر أولئك، وهذا ثابت أيضاً في حديث جابر بن عبد الله - ا - وهذه إحدى الصفات الثابتة، والله أعلم.
"فمن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس - ا - قال: قام النبي ﷺ وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا، وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا، وسجدوا معه، والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً".

يقول: "وقام الناس معه فكبر، وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم" أي أنهم كبروا جميعاً لكن ركعت طائفة واحدة معه دون الأخرى، فهذه الصورة غير التي قبلها حيث حصلت المفارقة فيها في السجود.
"وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله - ا - أن رسول الله ﷺ صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء، وصلى بهم رسول الله ﷺ ركعة وسجدتين، ثم سلم فكانت للنبي ﷺ ركعتين ولهم ركعة"، ورواه النسائي وهو في صحيح مسلم بلفظ آخر، وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح، والسنن، والمسانيد".

هذه إحدى الصور الثابتة من حديث جابر، وإلا فقد ورد عن جابر أيضاً - بروايات صحيحة - غير هذه الصفة، وهذا موافق لحديث حذيفة أنهم اكتفوا بركعة واحدة، ولم يتموا.
وأما الإتمام فمنه أن تتم الطائفة الأولى، ويقف هو ينتظر، ثم تسلم، وترجع إلى الحراسة، ومنه أن تتم كل طائفة لنفسها بالتناوب كما سبق.
"وروى ابن أبي حاتم عن سالم عن أبيه قال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] قال: هي صلاة الخوف، صلى رسول الله ﷺ بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو، فصلى بهم رسول الله ﷺ ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة.
وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه، وألفاظه، وكذا ابن جرير.
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية".

وهو قول الإمام الشافعي - رحمه الله -، وقد سبق أن داود الظاهري يقول: إن ذلك من شرطها.
"ويدل عليه قول الله تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ [سورة النساء:102] أي: بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها لا كلفة.
إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا".

مرات الإستماع: 0

"وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102] الآيةُ في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تُصلى بعد رسول الله ﷺ ؛ لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده ﷺ[1]؛ لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابةُ بعده ﷺ واختلف الناس في صلاة الخوف على عشرة أقوال لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نُضطر إلى ذكرها، فإن تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاةُ رسول الله ﷺ لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع".

هذه الصفات التي جاءت عن النبي ﷺ هي صفات مشروعة بحسب حال المسلمين، وحال العدو، إذا كان بينهم، وبين القبلة، أو غير ذلك.

وجاء في سبب النزول عن أبي عياش الزُرقي  قال: "كنا مع رسول الله ﷺ بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا، وبين القبلة، وصلى بنا رسول الله ﷺ الظهر، فقالوا: قد كانوا على حالٍ لو أصبنا غِرَّتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاةٌ هي أحب إليهم من أبنائهم، وأنفسهم - يعني العصر - قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر، والعصر وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح، قال: فصفننا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون قيامٌ يحرسونهم، فلمّا سجدوا، وقاموا جلس الآخرون" فالصف الأول سجدوا معه، وقاموا "فسجدوا في مكانهم" يعني تقدموا، وأولئك تأخروا "ثم تقدَّم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال: ثم ركع، فركعوا جميعًا، ثم رفع فرفعوا جميعًا، ثم سجد النبي ﷺ والصف الذي يليه، والآخرون قيامٌ يحرسونهم، فلمّا جلس جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلًّم عليهم، ثم انصرف، قال: "فصلاها رسول الله ﷺ مرتين: مرةً بعُسفان، ومرةً بأرض بني سُليم"[2] فالصحابة مما هو ظاهر من هذه الرواية أنهم لم يجتزئوا بركعةٍ واحدة، بل صلوا معه ﷺ الركعتين، يعني في السفر تُقصر الصلاة، فصلوا معه الركعتين، لكن كانت تتقدم طائفة، وتتأخر طائفة.

وجاء عن ابن عباس قال: خرج رسول الله ﷺ فلقي المشركين بعُسفان، فلمّا صلى رسول الله - عليه الصلاة، والسلام - الظهر فرأوه يركع، ويسجد هو، وأصحابه، قال بعضهم لبعض: كان هذا فرصةً لكم، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم، حتى تواقعوهم، فقال قائلٌ منهم: فإن لهم صلاةً أخرى هي أحب إليهم من أهليهم، وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها، فأنزل الله - تبارك، وتعالى - على نبيه وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ، أو كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] وأعلم ما ائتمروا به[3] يعني أعلم نبيه ﷺ بذلك، وذكر صلاة الخوف، فهذا كله صريح في سبب النزول، وهذه الواقعة كان المشركون بينه، وبين القبلة، يعني قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102] هو كما نقل من أن ذكر ذلك القيد من باب خطاب النبي ﷺ وهو خطابٌ متوجهٌ للأمة، فلا يختص بوجوده - عليه الصلاة، والسلام - وصلاة الخوف مشروعة بعده.

"فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] يقسِّم الإمام المسلمين على طائفتين، فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس، ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة، وتقف الأولى تحرس، واختُلف هل تتم كل طائفةٍ صلاتها - وهو مذهب الجمهور - أم لا؟ وعلى القول بالإتمام اختُلف هل يتمونها في أثرِ صلاتهم مع الإمام، أو بعد ذلك؟"

في بعض الأحاديث يدل على أنهم يتمون معه ﷺ كما في الحديث السابق، وفي بعضها ليس فيه ما يدل على الإتمام، ومن هذه الصفات الواردة ما جاء في حديث ابن عمر - ا - قال: "صلى رسول الله ﷺ صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي ﷺ ركعة، ثم سلَّم النبي ﷺ ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة"[4] هذا مُخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عمر.

فقوله: "قضى هؤلاء" صريح في أنهم لم يجتزئوا بركعةٍ واحدة، فالقول بأن صلاة الخوف القصر في الكمية، بحيث يصلي ركعة واحدة هذا ليس على إطلاقه.

وكذلك جاء عن صالح بن خوات بن جُبير عمن صلى مع النبي ﷺ يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفةً صفت معه، وطائفة، وجاه للعدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم"[5] ونلحظ في هذه الصفة أنهم أتموا، يعني بقي قائمًا حتى أتمت هذه الطائفة التي صلت معه ركعة، أتموا الصلاة لأنفسهم، ثم انصرفوا، وهذه الأحاديث يُستنبط منها في بعض المسائل في أحكام الإمامة، والائتمام، يعني فيمن صلى المغرب خلف من يصلي العشاء أربعًا، ماذا يفعل؟ هل يجلس في الثالثة، ثم يتشهد، ويسلم، وينصرف؟ هذا له شاهد هنا، ينصرفون، ثم يدرك الإمام في الركعة الأخيرة، يعني يدخل مع الإمام في صلاة العشاء في آخر ركعة، وتكون أول ركعة بالنسبة للمأموم، وله أن ينتظر حتى يجلس الإمام، يصلي ركعة الإمام يقوم للرابعة، وهذا يجلس حتى يجلس الإمام فيتشهد معه، ثم يسلم، هذا جاء أيضًا في بعض صفة صلاة الخوف، لا إشكال في هذا، فهنا في هذه الرواية: "صالح بن خوات بن جُبير عمن صلى مع رسول الله ﷺ يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفةً صفت معه، وطائفة، وجاه للعدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا، وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم، فهذا صريح في الإتمام، وأنه لا يُجتزئ بركعة.

وكذلك جاء عن جابر قال: شهدت مع النبي ﷺ صلاة الخوف فصفنا خلفه صفين، والعدو خلفه بيننا، وبين القبلة، فكبَّر ﷺ وكبَّرنا جميعًا، ثم ركع، وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلمّا قضى ﷺ السجود، والصف الذي يليه انحدر المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المُقدَّم، ثم ركع، وركعنا جميعًا" لاحظ لا زالوا يصلون معه، لكن يتقدم هؤلاء، ويتأخر؛ ليدرك هؤلاء فضيلة السجود على الأرض "ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى ﷺ السجود، والصف الذي يليه انحدر المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المُقدم، ثم ركع، وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى ﷺ وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، وسجد، ثم سلَّم النبي ﷺ وسلمنا جميعًا"[6] لا يتمون لأنفسهم بهذه الصفة، فهذه من صفاتها الثابتة، فكل ذلك بحسب حالهم - والله تعالى أعلم -.

"وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل: الطائفة المصلية، وقيل: الحارسة، والأول أرجح؛ لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا، وهم في الصلاة، جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنًى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم".

هنا ذكر القولين، أن التي تحمل الأسلحة هل هي المصلية، أو الحارسة؟ وذكر ابن عطية أن لفظ الآية يتضمن الكل، إلا أن سلاح المصلين ما خف[7] يعني يكون أخف من سلاح الآخرين، الذين يحرسون، وعلى كل حال فبعض الأحاديث التي، وردت تدل على أن الذين يصلون معه أنهم يحملون أسلحتهم، فالذين يصلون يحملون أسلحتهم من أجل ألا يباغتهم العدو، وإنما رخَّص لهم لوضع الأسلحة إذا كان بهم أذى من مطر، أو مرض.

"فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] الضمير في قوله: فَإِذَا سَجَدُوا [النساء:102] للمصلين، والمعنى: إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء".

فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] يقول: الضمير في قوله: فَإِذَا سَجَدُوا [النساء:102] للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء" لكن هذه الأحاديث تدل على أنهم الذين يصلون معه ﷺ فإذا سجد الصف الأول المُقدَّم يكون الذين يحرسون من ورائهم، هذا ظاهر من هذه الأحاديث، فإذا تقدَّم الصف المؤخر، وصلوا معه الركعة الأخرى، وسجدوا، فالمؤخر يكون من ورائهم يحرسهم، سواء أتم هؤلاء لأنفسهم، وهؤلاء لأنفسهم، يعني كل صف صلى معه ركعة واحدة، ثم أتم لنفسه، أو صلوا معه جميعًا، لكن هؤلاء يسجدون، وهؤلاء يثبتون قيامًا، فالذين يحرسون يكونون من ورائهم.

"والضمير في قوله: فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] يحتمل أن يكون للذين سجدوا، أي: إذا سجدوا فليقوموا، وليرجعوا، وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود الركعة الأولى [وفي النسخة الخطية: إن كان السجود هنا في الركعة الأولى]".

هذا أوضح، إذا كان السجود في الركعة الأولى، أو هنا في الركعة الأولى فيقتضي ذلك.

"إن كان السجود هنا في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحرابةِ [وفي النسخة الخطية: أنهم يقومون للحراسة]".

يقومون للحراسة.

"أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم، أو لا يقضونها".

فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] فإذا سجد الصف الأول الصف الثاني يحرس لا يسجد، فإذا صلى هؤلاء هذه الركعة تأخروا، وتقدم الصف المؤخر، فيكون الصف المُقدَّم للحراسة، في الخلف.

"وإن كان السجود ركعة القضاء، فيقتضي ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء".

هذا يُقال فيه بحسب ما جاء في النصوص.

"وإن كان السجود ركعة القضاء، فيقتضي ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء، وهو مذهب مالكٍ، والشافعي[8] ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: فَلْيَكُونُوا [النساء:102] للطائفة الأخرى أن يقفوا [وفي النسخة الخطية: أن يقفون] وراء المصلّين يحرسونهم [وفي النسخة الخطية: يحرسونهم في حال سجودهم]".

هذا واضح في النصوص أن الذين يحرسون هم الصف المؤخر الذي لا يسجد مع الإمام في الركعة الأولى، وهكذا إذا حصل مبادلة بين الصفين فالمؤخر يثبت قائمًا، لا يسجد، يكون في موضع الحراسة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] بهذا السياق وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102] إِذَا سَجَدُوا [النساء:102] هؤلاء الذين صلوا معه هذه الركعة فَلْيَكُونُوا [النساء:102] يعني الآخرين مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] ويكون الفئة الأولى من ورائهم للحراسة - والله أعلم -.

"وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102] يعني الطائفة الحارسة.

وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102] الآية، إخبارٌ عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي ﷺ وأخبره بذلك، وشُرعت صلاة الخوف حذرًا من الكفار، وفي قوله: مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102] مبالغةٌ، أي: مُستأصِلةً، لا يحتاج معها إلى ثانية".

يعني يتحاملون عليكم، ويغيرون عليكم إغارة واحدة مستأصلة.

"وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [النساء:102] الآية، نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضًا، فوضع سلاحه، فعنَّفه بعض الناس، فرخَّص الله في وضع السلاح في حال المرض، والمطر، ويقاس عليهما كل عذرٍ يحدث في ذلك الوقت".

فقوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [النساء:102] يقول: "نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضًا فوضع سلاحه، فعنَّفه بعض الناس، فرخَّص الله في وضع السلاح في حال المرض، والمطر" وقد جاء ذلك في الصحيح عن ابن عباس - ا - قال: نزلت إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى [النساء:102] في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا[9].

ومثل هذا اللفظ - كما ترون -: "نزلت في عبد الرحمن بن عوف" ليس بصريح في سبب النزول، يعني أنه مما يدخل في حكمها، ولكن يحتمل أن يكون هذا هو سبب النزول، ويحتمل أنه من قبيل التفسير، يعني هذا ليس بصريح في سبب النزول.

قول المؤلف - رحمه الله -: "الآية نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف" ظاهر الرواية لا يدل على ذلك صراحةً، يقول: "فرخَّص الله في، وضع السلاح"... إلى آخره "ويقاس عليهما كل عذرٍ يحدث في ذلك الوقت".

قوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:102] استدل به بعض أهل العلم، كالشافعي - رحمه الله - على وجوب حمل السلاح[10]؛ لأن الله رخَّص في وضعه في هذه الحالات: المرض، والمطر، فدلَّ على أنه لا يُرخَّص في وضعه إذا كان الناس في حال سلامة من المطر، والأذى، والمرض، لكنّهم في حال خوف، بل جعل داود بن علي الظاهري من شروط صحة الصلاة أن يحمل السلاح[11] باعتبار إن الله أمر به وَلْيَأْخُذُوا [النساء:102] فهذا أمر، والأمر للوجوب، وتعلق بالعبادة نفسها، لكن هذا ليس بلازم - والله تعالى أعلم - وإنما كلام أهل العلم في النهي في كونه يقتضي الفساد، لكن هنا يمكن أن يقول القائل بذلك: بأن الأمر بالشيء قد يستلزم النهي عن ضده، فهو نهيٌ بهذا الاعتبار، يقتضي النهي، والنهي للفساد، لكن هذا لا يخلو من بُعد.

"إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] إن قيل: كيف طابق الأمرَ بالحذر للعذاب المهين؟

فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ يقتضي توهم قوّتهم، وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم، ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري[12] وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة".

يعني هذا التذييل، والختم لهذه الآية ما مناسبته لموضوع الآية؟ هذا نوع من المناسبات؛ خاتمة الآية بموضوعها، فهو يقول: بأن ذلك باعتبار ما جاء قبله من لزوم أخذ الحذر؛ فذلك يوهم أن للكفار قوة، فبيَّن هنا في ختمها أنه أعدَّ لهم عذابًا مهينا يذلُّهم، على هذا التفسير - والله أعلم - يكون من باب تقليل شأن هؤلاء الكفار، فإن الأمر بالحذر، وحمل السلاح، ونحو ذلك من التوقي، والاحتراس، لا يعني أن هؤلاء يمثلون قوةً عظيمة، ينبغي أن تُهاب، فيقع الخوف في قلوب أهل الإيمان، فذكر لهم ما يكسر ذلك - والله أعلم -.

  1.  البناية شرح الهداية (3/165).
  2.  أخرجه أحمد ط الرسالة (27/120-16580) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/156-10373).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع برقم: (4133) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف برقم: (839).
  5.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع برقم: (4129) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف برقم: (842).
  6.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف برقم: (840).
  7.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/105).
  8.  انظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/338) والمعونة على مذهب عالم المدينة (ص:316) وبحر المذهب للروياني (2/423).
  9.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [النساء:102] برقم: (4599).
  10.  المجموع شرح المهذب (4/423).
  11.  انظر: فتح القدير للشوكاني (1/587).
  12.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/560).