صلاة الخوف أنواع كثيرة".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا لم يعتنِ ببيان الألفاظ، وإنما تكلم على صلاة الخوف إجمالاً.
قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ [سورة النساء:102] هذا الخطاب لا يختص بالنبي ﷺ بل هذا في صلاة الخوف عامة.
وإذا قلنا: إن الآية الأولى في قصر الكيفية - على قول ابن جرير - أعني قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] فهذه الصلاة فيها ركوع، وسجود، وهي في قصر الكمية سواء على قول من قال: إن صلاة الخوف تكون ركعة لكل طائفة - وهو قول معروف قال به كثير من الصحابة ومن بعدهم -، أو من قال: إن الرباعية تصلى مقصورة.
يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] هذا كقوله : فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:103] فهناك على قول ابن جرير في حال المسايفة والالتحام مع الأعداء، وعلى قول الجمهور تكون هذه في بيان صفة صلاة الخوف كيف تصلى، فالله ذكر صفة من صفاتها، وقد ورد لها صفات متعددة في السنة ربما تصل إلى سبع صفات أو أكثر، وذلك كله يفعل بحسب حالهم، وحال عدوهم، وما يحتاجون إليه توسعة من الله .
قوله تعالى: فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] هذا الخطاب ظاهره أنه موجه للطائفة التي تقوم تصلي مع أنه يحتمل - كما قال بعض المفسرين - أن الخطاب موجه للطائفة التي تقوم مواجهة للعدو أي التي تحرس، ويحتمل أن يكون الخطاب موجهاً للجميع، والظاهر - والله أعلم - أنه يعود للطائفة المتحدث عنها وهي الطائفة التي تقوم تصلي معه؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، والمعنى أن هذه الطائفة التي تصلي يحمل أفرادها السلاح؛ ولهذا رخص الله لهم في حال المطر، والمرض؛ أن يضعوا أسلحتهم، وأما الطائفة الأخرى فلا يفهم إطلاقاًَ أنها لا تحمل السلاح؛ لأنه إذا كان الذين يصلون يحملون السلاح، فحمل السلاح بالنسبة للحراس من باب أولى؛ فالذين يقفون إنما يقفون للحراسة فلا حاجة لتنبيههم على حمل السلاح، فالمقصود أن الجميع يحملون أسلحتهم - الذين يصلون، والذين يحرسون - لكن ذكر الذين يصلون؛ لأن انشغالهم بالصلاة مظنة لوضع السلاح، فأمرهم الله بحمله.
ثم قال: فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ [سورة النساء:102] يعني الذين يحرسون، وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ [سورة النساء:102] يعني هؤلاء يصلون معه ركعة ثم يتأخرون، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس، وتتقدم، وتصلي معه ركعة - على اختلاف في الصيغ، والصور، والهيئات، والكيفيات - إما على قول من قال: إنه تجزئهم ركعة واحدة، وإما على قول من قال: يصلون ركعتين، والمقصود أنهم - على القول بركعتين لكل طائفة - يتراجعون، ويتقدم الآخرون فيصلون مع النبي ﷺ ركعة ثم يتمون لأنفسهم ركعة، وأولئك يتمون لأنفسهم ركعة، فتكون ركعة مع النبي ﷺ وركعة منفردين، وهذا كله يدل على أهمية صلاة الجماعة، كما يدل هذا على أن المجاهد أحوج ما يكون للارتباط بالله - تبارك وتعالى -؛ فأين الذي ينام على فراشه والناس يصلون؟!
يقول تعالى: وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] يلاحظ أنه أمر بأخذ الحذر عند ذكر الطائفة الثانية، ولم يذكره مع الطائفة الأولى، والسبب - والله أعلم - هو أن العدو إذا رأى الجميع يحمل السلاح ظن أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا له، فإذا تبيّن له أنهم يصلون لما يرى من التأخر، والسجود، والركوع، والتبديل بعد ذلك؛ فإنه قد يقدم عليهم، ويهاجمهم؛ لذلك أمرهم بأخذ الحذر.
ويحتمل أن يكون السبب هو أن الطائفة الأخرى هي الأحرى بمزيد من الحذر؛ لأن العدو إنما يريد أن يهاجمهم قبل الفراغ من الصلاة، وفرصته تكون مواتيه وهم يصلون، وهو لا يريد أن يفوت هذه الفرصة، فأمرت الطائفة الأخرى بالحذر؛ لأنها آخر فرصة للعدو للإغارة؛ حيث إنهم إذا سلموا من الصلاة، وانصرفوا؛ انتهى مقصود العدو الذي كان يتربص بهم، ويعرف أن لهم صلاة هي أحب إليهم من كل شيء، فالهجوم سيكون في الصلاة، فالمقصود أنه يمكن أن يقال هذا والعلم عند الله ، وعلى كل حال فإن مثل هذه القضايا يستنبطها العلماء - رحمهم الله - فقد تكون صحيحة، وقد لا تكون، لكن لها وجه فيما يبدو، وإن كان عند التأمل يمكن أن يستخرج غير هذا السبب، فالله أعلم.
طبعاً هذا المعنى يحمل على الآية السابقة: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة النساء:101] بناء على قول ابن جرير بأن المراد بالقصر قصر الكيفية، وعليه تكون هذه الآية في حال كونهم يستطيعون إقامتها بالركوع، والسجود، والله أعلم.
ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس - ا -: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم -ﷺ في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة" [رواه مسلم وأبو داود، والنسائي وابن ماجه] وبه قال أحمد بن حنبل.
قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، وإليه ذهب طاوس والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً.
وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزئك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله".
طبعاً ليس مقصود ابن راهويه بسجدة واحدة أنها ركعة - باعتبار أن الركعة يعبر عنها بالسجدة أحياناً -، وإنما قصد هنا السجود المعروف، والله أعلم.
روى الإمام أحمد عن أبي عياش الزُّرَقي قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر، والعصر: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102] قال: فحضرت فأمرهم رسول الله ﷺ، فأخذوا السلاح، فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون، فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف، قال: فصلاها رسول الله ﷺ مرتين، مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم" وهكذا رواه أبو داود والنسائي وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".
فهذه الصفة التي جاءت في حديث أبي عياش الزُّرقي حينما صلى النبي ﷺ بعسفان هي إحدى الصفات الواردة في صلاة الخوف، فصلاة الخوف جاءت بصفات متعددة بحسب حال المسلمين مع عدوهم؛ توسعة من الله - تبارك وتعالى - عليهم، وهذه الصفات ربما تزيد على الثمان أو نحو ذلك، إذا اعتبرنا التداخل الموجود في بعض الروايات وإلا فإن الروايات في ذلك كثيرة، حتى إن بعض أهل العلم كابن حزم يذكر في ذلك ستة عشر وجهاً، وبعضهم يزيد عليه، مع أن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: صلاها النبي ﷺ عشر مرات، وفي المقابل يقول ابن العربي المالكي: إن النبي ﷺ صلاها أربعاً وعشرين مرة، فعلى كل حال إذا طرحت الروايات الضعيفة، وطرح التداخل الموجود في بعض الصفات؛ فإن العدد سيكون أقل من هذا بكثير - والله تعالى أعلم -، فهي بحسب حال العدو.
ومن أسهل هذه الصفات، وأوضحها أن ينقسم القوم إلى قسمين، فيصلي الإمام بطائفة منهم ركعة إذا كانت الصلاة ثنائية مثلاً -كصلاة الفجر- ثم يقوم، فتتم هذه الطائفة لنفسها ركعة ثم ترجع في مواجهة العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم ركعة ثم يجلس في التشهد حتى يتموا لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون معه.
ومن الصفات القريبة من هذه أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم تبقى قائمة في مقابلة العدو وهي في الصلاة، ثم تأتي الطائفة الأخرى وتصلي معه ركعة، ثم تتم كل طائفة لنفسها، ويكون هذا الإتمام بالتناوب، بمعنى أنهم لا يتمون معاً، وإلا ذهبت فائدة مشروعية صلاة الخوف.
ومن صفات صلاة الخوف إذا كان العدو بينهم وبين القبلة أن يصطفوا على صفين، فيصلوا جميعاً مع الإمام، ثم يركعوا ويرفعوا من الركوع معه، فإذا جاء السجود سجد الصف الأول ويبقى الصف الثاني قائماً، ثم يتقدم الصف الثاني في الركعة الثانية، ويتأخر الصف الأول، ثم يركعون ويرفعون معاً، فإذا جاء السجود سجد الصف الأول - الذي كان هو الصف الثاني في الركعة الأولى - ويبقى الصف الثاني في قيامهم - الذي كان هو الصف الأول في الركعة الأولى -، فإذا فرغوا من سجودهم سجد الصف الثاني، ثم يتشهدون معه جميعاً، وينصرفون جميعاً.
ومن الصفات أن يصلي بهؤلاء ركعتين، ويسلم بهم، ثم يصلي بالطائفة الأخرى ركعتين جديدتين، وينصرف بهم، وتكون الصلاة بالثانية بالنسبة إليه نافلة، وهكذا إذا كانت الصلاة ثلاثية - المغرب - يصلي بهؤلاء ثلاث ركعات، وينصرف، ويصلي بأولئك ثلاث ركعات، وينصرف، وكل هذا ثابت عن رسول الله ﷺ.
وإذا كانت الصلاة من ركعتين فإنه ينتظر الطائفة الثانية وهو قائم، وإذا كانت الصلاة من أربع ركعات فإنه ينتظر في التشهد الأول، وإذا كانت الصلاة من ثلاث ركعات فينتظر في التشهد الأول، يعني أن الطائفة الثانية تصلي معه ركعة واحدة.
كما ثبت أيضاً من حديث حذيفة أن النبي ﷺ صلى صلاة الخوف ركعة واحدة، وهذه الصيغة ثابتة وصلاها حذيفة حينما كانوا بطبرستان، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذه الصفات بحسب الحال ففي حال الخوف الشديد، أو في حال الالتحام؛ يصلون إيماء من غير استقبال، ولا ركوع، ولا سجود، وإذا كانوا في حالة أخرى فينظر في مقامهم، وشدة الخوف، وموقع العدو؛ فيختارون الصفة التي تكون أليق بالحال فيصلون بها.
ومن أهل العلم - كما سبق فيما أورده الحافظ ابن كثير عن إسحاق بن راهويه رحمه الله - من يرى أنه يصلي ركعة، فإن لم يستطع فسجدة، فإن لم يستطع فبتكبيرة الإحرام؛ لأنه ذكر لله كما قال إسحاق - رحمه الله - فالمقصود أن كل هذه الصفات، والصور؛ لصلاة الخوف ثابتة، وصحيحة، والله تعالى أعلم.
يقول أبو عياش: "فحضرت" يعني صلاة العصر"فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح، فصفنا خلفه صفين" طبعاً أخذ السلاح واجب؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب في قوله: وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء:102] إلا إذا كان لهم عذر من مطر، أو جراح، أو مرض أو نحو ذلك ولا يبلغ هذا أن يكون شرطاً لصحة الصلاة كما قال بعض أهل العلم مثل داود الظاهري - رحمه الله - حيث يقول: إن حمل السلاح من شروط صحة صلاة الخوف، وذلك أن لها شروطاً منها: أن تكون في حال الخوف، واشترط بعضهم أن يكون ذلك في السفر، ولا تصح في الحضر، وعلى كل حال هذه الشروط منها ما هو مختلف فيه، لكن عامة أهل العلم يرون أنها تصح من غير حمل السلاح لكن يجب أخذه، فالقول بأن ذلك من شروط الصحة قول بعيد، والله تعالى أعلم.
يقول: "فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون، فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء" يعني أن الجميع يصلون حتى حينما تقدموا لكن من أجل أن يحصل لهؤلاء سجود معه ابتداء من غير تأخير يتقدم هؤلاء، ويتأخر أولئك، وهذا ثابت أيضاً في حديث جابر بن عبد الله - ا - وهذه إحدى الصفات الثابتة، والله أعلم.
يقول: "وقام الناس معه فكبر، وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم" أي أنهم كبروا جميعاً لكن ركعت طائفة واحدة معه دون الأخرى، فهذه الصورة غير التي قبلها حيث حصلت المفارقة فيها في السجود.
هذه إحدى الصور الثابتة من حديث جابر، وإلا فقد ورد عن جابر أيضاً - بروايات صحيحة - غير هذه الصفة، وهذا موافق لحديث حذيفة أنهم اكتفوا بركعة واحدة، ولم يتموا.
وأما الإتمام فمنه أن تتم الطائفة الأولى، ويقف هو ينتظر، ثم تسلم، وترجع إلى الحراسة، ومنه أن تتم كل طائفة لنفسها بالتناوب كما سبق.
وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه، وألفاظه، وكذا ابن جرير.
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية".
وهو قول الإمام الشافعي - رحمه الله -، وقد سبق أن داود الظاهري يقول: إن ذلك من شرطها.
إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا".