"فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103] الآية، أي: إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام، والقعود على الجنوب [وفي النسخة الخطية: وذكر القيام، والقعود، وعلى الجنوب] ليعم جميع أحوال الإنسان".
جميع أحوال الإنسان، فإنه إما أن يكون قائمًا، أو قاعدًا، أو على جنب مضطجعًا، ولا يقولن قائل: وإذا كان مستلقيًا؟ يقال: الذي يسأل هذا السؤال، ويورد هذا الإيراد لا يفهم لغة العرب.
"وقيل: المعنى: إذا تلبَّستم بالصلاة فافعلوها قيامًا، فإن لم تقدروا فقعودًا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم".
يعني قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103] إما أن يكون هذا بعد الصلاة، فيكثرون من ذكر الله - تبارك، وتعالى - فلا يكونوا قُصارى الذكر لله - تبارك، وتعالى - في حال كونهم في الصلاة، وإنما يكونون ملازمين له في سائر أحوالهم، وسائر الأوقات، أو أنّ ذلك يكون في حال الصلاة يفعلونها قيامًا، فإن لم يقدروا فقعودًا، فإن لم يقدروا فعلى جنوبهم، لكن هذا قد يكون خلاف ظاهر اللفظ المتبادر؛ لأنه قال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] فالقضاء هنا يدل على الفراغ، وهو أحد المعاني المشهورة الصحيحة للقضاء فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] فهذا مثله، فبعد الحج، وبعد الصلاة يلازم الذكر، فلا يقتصر في ذكره لله في حال صلاته، أو في حال تلبسه بالإحرام، والنسك، وعلل ذلك ابن كثير - أعني قوله تبارك، وتعالى -: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103] - باعتبار ما وقع فيها من التخفيف، في أركانها من الرخصة في الذهاب فيها، والإياب، وغير ذلك، مما لا يوجد في غيرها فلمّا كانت هذه الصلاة يُتخفف فيها، ويُترخَّص فيها ما لا يتُرخَّص في غيرها، كان ذلك تتميمًا، وتكميلًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] وليس ذلك بلازم، بل هذا إذا اعتبرته مع الآية التي ذكرتها آنفًا فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، أو أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] فالإكثار من الذكر، وملازمته في كل الأوقات، والأحوال بعد الفراغ من العبادات هذا باعتبار أن الذكر لا ينفك عنه المُكلَّف بحالٍ من الأحوال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41 - 42] وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] وكذلك أيضًا فإن هذا يكون طردًا للعُجب بعد هذه العبادات العظيمة: الصلاة، والحج، ونحو ذلك، فيلزم الذكر فيكون مخبتًا، لا سيما الاستغفار، وكان النبي ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا ويكون ذلك أيضًا باعتبار ما قد يقع في العبادة من نقصٍ، ونحو ذلك - والله أعلم -.
"فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] أي: إذا اطمأننتم من الخوف، فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة".
فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] يعني: إذا زال عنكم الخوف فأقيموها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103] وعلى هذا المعنى حمله ابن جرير والحافظ ابن كثير يعني بمعنى إذا زال الخوف فصلوا الصلاة على الطريقة المعهودة، دون الترخص بقصر هيئتها من الإيماء، ونحو ذلك.
وحمله الشافعي على قضاء الصلاة التي كانت في حال المسايفة أي أنها تُقضى؛ لأنه ترخص في حال المسايفة فصلاها بمجرد الإيماء، أو أنه صلاها ركعة، أو أنه سجد سجدة - كما قال إسحاق - إذا ضاقت عليه الحال، فالشافعي - رحمه الله - يفسر ذلك بقضاء تلك الصلاة التي صلاها في حال المسايفة، وهذا لا يخلو من إشكال - والله تعالى أعلم -.
والقاعدة، والأصل أن العبد المُكلف إذا جاء بالعبادة بحسب استطاعته، فإنه لا يُطالب بالقضاء، ولا الإعادة، فمن صلى من غير استقبال؛ لأنه لم يستطع أن يستقبل القبلة، كأن يكون مريضًا، أو محبوسًا، أو نحو ذلك، فإنه لا يقضي إذا تمكن من استقبالها، وزال العذر، وكذلك لو صلى من غير طهارة بنوعيها، يعني من غير وضوء، ولا تيمم؛ لأنه لم يستطع، فإنه لا يُطالب بقضاء الصلاة بعد ذلك إذا استطاع، ووجد الماء، فهذا على حسب هذه القاعدة العامة: أن المُكلف إذا جاء بالعبادة بحسب مقدوره، واستطاعته، فإن ذلك يجزيه، وهذا كثير في العبادات اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
"كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: محدودًا بالأوقات، وقال ابن عباس: فرضًا مفروضًا".
الكتاب يدل على الفرضية، والموقوت المحدد بأوقات.