الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَمَن يَكْسِبْ خَطِيٓـَٔةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِۦ بَرِيٓـًٔا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قوله تعالى: وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [سورة النساء:112] أي: ذنباً من الذنوب سواء كان ذلك قاصراً، أو متعدياً، ولهذا قال قبله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [سورة النساء:110] فالسوء كل ما يخرج عن طاعة الله ، ويكون من قبيل المخالفة أياً كان صغيراً، أو كبيراً.
وقيل للذنب والمعصية سوءاً؛ ربما لأنها تسوء صاحبها إذا نظر إليها في صحيفة عمله، ويقابل ذلك الحسنة.
قوله: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [سورة النساء:112] يعني يظلم نفسه بالتقصير في طاعة الله، وترك ما أمره الله به؛ فهذا من ظلم النفس، وإن كان لا يعمل شيئاً في الخارج كالذي يكذب، أو يسرق أو نحو ذلك من السوء، فالتقصير فيما أمر الله به، وترك طاعته، وفعل المعصية كله من ظلم النفس، ولذلك كان ظلم النفس أعم من فعل السوء.
وفي قوله: وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [سورة النساء:112] الخطيئة: أعم من الإثم لأنها تكون بطريق القصد وبغير قصد، لكنها بغير قصد، لا يؤاخذ الإنسان عليها.

مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إِثْمًا [النساء:112] قيل: إن الخطيئة تكون عن عمدٍ، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنًى، وكرر لاختلاف اللفظ".

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً [النساء:112] يُقال: خَطِأَ، وبعضهم يقول: من الخطأ، وهو العدول عن القصد، والجهة.

خَطِيئَةً أو إِثْمًا [النساء:112] التفريق بين الخطيئة، والإثم: باعتبار إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، يعني أن الخطيئة أعم من الإثم، فيكون من قبيل عطف الخاص على العام، وبعضهم كابن جرير[1] وصاحب المفردات ذهب إلى أن الخطيئة تكون عن غير عمد، والإثم يكون عن عمد[2] لكن لو تتبعت استعمال الخطيئة في القرآن، فإنها تُقال لما كان عن عمد خطيئة، كقوله: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] ولذلك بعضهم يفرِّق بين الخطأ، والخطيئة، يقول: والخطأ بغير عمد، والخطيئة ما كان بعمد، لكن كأنهم قصدوا بهذا التفريق بين الخطيئة، والإثم، وأن الخطيئة عن غير عمد، في هذا الموضع فقط - أعني ابن جرير، والراغب الأصفهاني - وقال غير هؤلاء، كصاحب الفروق، وهو أبو هلال العسكري: يرى وجود فروق بينهما، ولا بد؛ لأنه لا يعتقد وجود المترادف في اللغة أصلًا، فألَّف هذا الكتاب بناءً على ذلك، فهو يقول: بأن الخطيئة قد تكون من غير تعمد، ولا يكون الإثم إلا بتعمد، ثم كثر ذلك حتى سُميت الذنوب كلها خطايا[3]، وبعضهم يقول: الخطيئة هي الذنب الكبير، والإثم ما دون ذلك.

وبعضهم يقول: بالعكس، الإثم يكون الذنب الكبير، والخطيئة الذنب الصغير.

والإثم تارةً يُقال للمعصية نفسها، يُقال: الزنا إثم، وقد يُطلق على نوعٍ منها، وهو شرب الخمر، أو الخمر، كما قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضلَّ عقلي كذاك الإثمُ تفعل بالعقول[4]

فيسمون الخمر الإثم، وتارةً يُطلق على أثره، ونتيجته، يُقال مثلًا: يأثم من فعل كذا، يعني المؤاخذة فهي الإثم، فتارةً تُطلق على الأثر، وتارةً تُطلق على ما يمكن أن يكون من قبيل السبب، وهو العمل الذي هو المعصية.

وهنا ذكر الخطيئة، والإثم وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إِثْمًا ثم يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] فهل يُقال: إن الخطيئة هنا ما كان من غير عمد، باعتبار أن من يقع منه مخالفة، أو جناية بغير عمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]؟ لا شك أن من فعل ذلك فهو داخل في الوعيد، لكن هل هذا هو المعنى المراد، سواءً وقع منه بعمد، أو بغير عمد، رمى به غيره؟ فلا يجوز أن يرمي غيره، ولو وقعت منه الجناية عن غير عمد، فالمراد هنا محتمل، يمكن أن يكون الخطيئة ما كان بعمدٍ، وغير عمد، لكن الاستعمال الذي في القرآن للخطيئة لا تكاد تُستعمل إلا ما كان عن عمد بالمخالفة الشرعية، فتكون الخطيئة، والإثم بمعنًى متقارب - والله أعلم -.

أخطأ غير الخطيئة، أخطأ خطأً، وخطئ خطيئةً، فالأول مُخطئ، والثاني خاطئ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16] فهكذا الاستعمال القرآني فالخطيئة لا تكاد تستعمل إلا فيما كان عن عمد، مما يستوجب الإثم - والله أعلم - لكن مثل هذه الاستعمالات، ومثل هذه الألفاظ لها دلالات، يعني هنا الخطيئة تدل على الجناية، والإثم يدل على مؤاخذة.

ووُجدت رسالة - أظنها رسالة ماجستير، أو دكتوراه، طُبعت قريبًا في مثل هذه الألفاظ التي تبدو مترادفة في الآيةِ الواحدة، يعني فيما يبدو أنه مترادف، كـخَطِيئَةً أو إِثْمًا [النساء:112] وله نظائر، ومعرفة هذا مفيد.

"ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل".

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو إِثْمًا ثم يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] ذكر أمرين: الخطيئة، والإثم، ثم وحَّد الضمير ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] وهذا يمكن أن يكون باعتبار أن العطف جاء بـأَوْ يعني هذا، أو هذا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [النساء:112] يعني بأحدهما، ولم يقل: بهما، فهو يرميه بهذا، أو بهذا؛ لأن الذي وقع إما خطيئة، وإما إثم، على التفريق السابق.

أو لتغليب الإثم على الخطيئة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [النساء:112] أي هذا الإثم.

وبعضهم يقول: يرجع إلى الكسب وَمَنْ يَكْسِبْ [النساء:111] أي: يرمي بهذا الكسب بَرِيئًا وهذا في القرآن له نظائر، يعني يُذكر أمران، ويعود الضمير على أحدهما، فتارةً يكون هذا من باب الاكتفاء بأحدهما فيدل المذكور على الآخر، وهذا أنواع، يعني كقوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] ولم يقل: انفضوا إليهما، فبعضهم يقول: هذا من باب الاكتفاء حيث ذكر أحدهما، والمراد هذا، وهذا.

وبعضهم يقول: ليس كذلك؛ لأن المقصود هو التجارة، فهم لم يخرجوا للهو، هذا باعتبار الاختلاف في تفسير اللهو ما هو؟ ففسره بعضهم بالطبل، باعتبار أن القافلة حينما قدمت، وكانت لدحية قبل إسلامه، فضُرب بين يديها بالطبل إعلانًا، وإيذانًا بقدومها، كما كانت عادة الناس في الجاهلية، فهم لم يخرجوا من أجل الطبل الذي هو اللهو بهذا الاعتبار، وإنما خرجوا من أجل القافلة، والتجارة؛ ولهذا قال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] فاللهو مذكر، وقد جاء الضمير مؤنثًا إِلَيْهَا [الجمعة:11] أي: التجارة، خرجوا من أجلها، ومن فسَّر اللهو بأنه كل ما يشغل عن ذكر الله، يكون معنى: انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11] أي: اللهو، والتجارة، فقال: أعاد الضمير إلى أحدهما اكتفاءً ليدل على الآخر.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/197).
  2.  المفردات في غريب القرآن (ص:288).
  3.  الفروق اللغوية للعسكري (ص:233).
  4.  البيت غير منسوب لقائل في لسان العرب (12/6) وتاج العروس (31/184) وتهذيب اللغة (15/117).