الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍۭ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:114-115].
يقول تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ يعني كلام الناس إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي: إلا نجوى من قال ذلك.
وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة - ا - أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينْمِي خيراً، أو يقول خيراً وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله ﷺ، وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه[1].
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هي الحالقة ورواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي حسن صحيح[2].
ولهذا قال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة النساء:114] أي: مخلصاً في ذلك، محتسباً ثواب ذلك عند الله : فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:114] أي: ثواباً جزيلاً، كثيراً، واسعاً".

فالله - تبارك وتعالى - يقول هنا: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ [سورة النساء:114]، وفي الآية الأخرى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة:10] وفُسِّر هناك بأنها نجوى المنافقين؛ لأن الله قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].
وبعضهم يقول: هي نجوى اليهود، ولا شك أن تلك الآيات في اليهود لقرينة قوله: حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].
والنجوى المذمومة لا تختص بنجوى اليهود وإنما يدخل فيها كل نجوى من شأنها أن تورث فساداً - وهذا هو الغالب -، فالنجوى إما أن تكون بأمر مباح، وإما أن تكون في طاعة كما ذكر الله هنا، وإما أن تكون على وجه الإفساد في أمر محرم، وقد تكون النجوى في أمر مباح، أو في طاعة، ولكنه لا يلتزم شرطها، حيث إن النبي ﷺ قال: لا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فتكون محرمة بهذا الاعتبار.
وحقيقة النجوى يمكن أن يقال: هي الكلام الذي يكون بين طرفين بقصد الانفراد عن الناس، أو هو حديث الناس الذي يقصدون به الانفراد عن الآخرين سواء كان ذلك سراً أو مجهوراً به، بمعنى أنه يتكلم بصوت مرتفع، أو أنه يخفض صوته؛ فهذا لا يؤثر، وإنما ما يقصدون به الانفراد فإنه يكون من قبيل النجوى، وقد قيل: إن أصله من النجوى وهو المكان المرتفع من الأرض.
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمِي خيراً تقول: نمى الحديث يعني نقله على وجه الإصلاح، فالكلام الذي ينقل على وجه الإصلاح يقال نماه، والكلام الذي ينقل على وجه الإفساد يقال: نمّه يعني أن ناقله نمَّام.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الصلح - باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2546) (ج 2 / ص 958) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) (ج 4 / ص 2011).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب -  باب فى إصلاح ذات البين (4921) (ج 4 / ص 432) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 56 (2508) (ج 4 / ص 663) وأحمد (27548) (ج 6 / ص 444) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2595).

مرات الإستماع: 0

"لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]: إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف، تقديره: إلّا نجوى من أمر، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة، فالاستثناء متصل".

فقوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] يقول: "إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام" أي: تناجيهم، هو الكلام الخفي "فالاستثناء الذي بعد هذا منقطع" أي قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فيكون المراد بالنجوى هنا المصدر بهذا الاعتبار لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ [النساء:114] (من) هذه تكون للأشخاص، وليست من جنس التناجي، فيكون الاستثناء منقطع، يعني مَنْ أَمَرَ هذه للأشخاص، من أمر هؤلاء الأشخاص الذي هذه صفتهم ليسوا من جنس المستثنى منه الذي هو التناجي، فيكون الاستثناء بهذا الاعتبار منقطعًا.

يقول: "وقد يكون متصلاً على حذف مضاف تقدير: إلا نجوى من أمر" وعرفنا الفرق بين الاستثناء المتصل، والمنقطع، وبهذا الاعتبار يمكن أن تكون (من) في موضع جر بدلاً من نجواهم، فنجواهم مجرور بـ(من)، والتقدير: إلا نجوى من أمر، ويمكن أن تكون في موضع نصب على أصل باب الاستثناء، ولا يظهر عليها الإعراب، فهي من الأسماء الموصولة، والأسماء الموصولة مبنية.

يقول: "وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة" يعني القوم الذين يتناجون؛ لأن النجوى تكون بين اثنين فأكثر، فهم يقصدون به الانفراد، يقولون: أصلها من النجوة، وهي المكان البائن، فكأن هؤلاء من المتناجين يقصدون موضعًا يبينون فيه عن الناس، يعني ينفصلون، وينفردون عن الناس، سواء أن كان ذلك حقيقةً، انفردوا بذواتهم، أو حكمًا يعني هم مع الناس، ولكنهم يتحدثون حديثًا يديرونه بينهم دون غيرهم، يعني ما قُصد به الانفراد فهو نجوى.

فيقول: "إن كانت النجوى بمعنى الجماعة" يعني هؤلاء الجماعة، أو القوم الذين يتناجون، كما قال الله : وَإِذْ هُمْ نَجْوَى [الإسراء:47] أي: متناجون، وهو من إطلاق المصدر على الذي صدر منه، وهم الجماعة الذين حصل منهم التناجي، كما تقول: رجلٌ عدل، يعني عادل، فعدل مصدر، وعادل اسم فاعل، فأُطلق المصدر على من صدر عنه ذلك الفعل، أو الوصف.

يقول: "وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة، فالاستثناء متصل" يعني المتناجين من الناس، وتكون نجوى بهذا الاعتبار خرجت مخرج كما يقولون: جرحى، ومرضى، أي: مجروحون.

فإذا قلنا: بأن الاستثناء من قبيل المنقطع، فيكون النجوى بمعنى الكلام الذي يُتناجى به، ويكون إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ [النساء:114] ليس من جنس النجوى، لكن مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فهذا نجواه صالحة، أو خيرة، أو نحو ذلك، وهذا ظاهر.

وعلى القول بأن الاستثناء متصل، يكون إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ [النساء:114] نجواه نجوى الجماعة من المتناجين، لكن هذا خلاف المتبادر، كأن الأول أقرب، وأوضح؛ ولذلك قد يكون تصور المعنى الأول أسهل من تصور هذا المعنى الثاني، ويحتاج إلى تنبيه، فالأصل أن المعنى المتبادر مقدم على غيره - والله أعلم -.