يقول تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ يعني كلام الناس إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي: إلا نجوى من قال ذلك.
وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة - ا - أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينْمِي خيراً، أو يقول خيراً وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله ﷺ، وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه[1].
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هي الحالقة ورواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي حسن صحيح[2].
ولهذا قال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة النساء:114] أي: مخلصاً في ذلك، محتسباً ثواب ذلك عند الله : فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:114] أي: ثواباً جزيلاً، كثيراً، واسعاً".
فالله - تبارك وتعالى - يقول هنا: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ [سورة النساء:114]، وفي الآية الأخرى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة:10] وفُسِّر هناك بأنها نجوى المنافقين؛ لأن الله قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].
وبعضهم يقول: هي نجوى اليهود، ولا شك أن تلك الآيات في اليهود لقرينة قوله: حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8].
والنجوى المذمومة لا تختص بنجوى اليهود وإنما يدخل فيها كل نجوى من شأنها أن تورث فساداً - وهذا هو الغالب -، فالنجوى إما أن تكون بأمر مباح، وإما أن تكون في طاعة كما ذكر الله هنا، وإما أن تكون على وجه الإفساد في أمر محرم، وقد تكون النجوى في أمر مباح، أو في طاعة، ولكنه لا يلتزم شرطها، حيث إن النبي ﷺ قال: لا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فتكون محرمة بهذا الاعتبار.
وحقيقة النجوى يمكن أن يقال: هي الكلام الذي يكون بين طرفين بقصد الانفراد عن الناس، أو هو حديث الناس الذي يقصدون به الانفراد عن الآخرين سواء كان ذلك سراً أو مجهوراً به، بمعنى أنه يتكلم بصوت مرتفع، أو أنه يخفض صوته؛ فهذا لا يؤثر، وإنما ما يقصدون به الانفراد فإنه يكون من قبيل النجوى، وقد قيل: إن أصله من النجوى وهو المكان المرتفع من الأرض.
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمِي خيراً تقول: نمى الحديث يعني نقله على وجه الإصلاح، فالكلام الذي ينقل على وجه الإصلاح يقال نماه، والكلام الذي ينقل على وجه الإفساد يقال: نمّه يعني أن ناقله نمَّام.
- أخرجه البخاري في كتاب الصلح - باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2546) (ج 2 / ص 958) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) (ج 4 / ص 2011).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب فى إصلاح ذات البين (4921) (ج 4 / ص 432) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 56 (2508) (ج 4 / ص 663) وأحمد (27548) (ج 6 / ص 444) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2595).