الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [سورة النساء:115] أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول ﷺ فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق، وتبين له واتضح له.
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفًا لهم، وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة.
وقد توعد تعالى على ذلك بقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:115] أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسِّنها في صدره، ونزينها له - استدراجًا له - كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [سورة القلم:44] وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وقوله: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].
وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ الآية [سورة الصافات:22] وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:53]".

قوله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [سورة النساء:115] يعني المنازعة، والمخالفة.
وقوله: مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115]: هناك نصوص أخرى تدل على هذا المعنى منها قول الله : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة النور:51] وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [سورة الأحزاب:36].
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذه قضايا متلازمة، بمعنى أنه إذا شاقق الرسول ﷺ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:115] هذه من الآيات التي استدل بها العلماء - لا سيما الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة - على صحة الإجماع.

مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115] أي: يعاديه، والشقاق: هو العداوة".

يعني يعاديه، ويخالفه، يقولون: إن أصل ذلك أن يكون المشاق في شق، وهذا في شق، كما يُقال في العداوة: أن يكون هذا في عُدوة، وهذا في عُدوة، والعدوة التي هي طرف الوادي، أو شاطئ الوادي، أو شفير الوادي، أو ناحية الوادي، فهذا في ناحية، وهذا في ناحية، فهذا المشاق يكون مخالفًا، كأنه في شق، والرسول - عليه الصلاة، والسلام - في شقٍ آخر، فهذا يدل على المنابذة، والمخالفة، والعداوة، ونحو ذلك.

"ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق؛ لأنه ارتدّ، وسار إلى المشركين، ومات على الكفر".

مضى الكلام على هذه الرواية، من حسنها، وضعفها، وهي لا تخلو من ضعف، لكن من أهل العلم من قواها.

يقول: "لأنه ارتد، وسار إلى المشركين، ومات على الكفر" وهذا حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -[1] وأن بعضهم ضعفه ببعض رواته، وهو عُمر بن قتادة، وأنه مجهول، والقول بـأنها عامة فيه، وفي غيره، هذا بناء على الأصل المشهور: إن العبرة بعموم اللفظ، والمعنى، لا بخصوص السبب.

"وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ استدل الأصوليون بهذا على صحة إجماع المسلمين، وأنه لا يجوز مخالفته؛ لأن من خالف اتبع غير سبيل المؤمنين، وفي ذلك نظر".

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] فذكر سبيل المؤمنين بإطلاق، يعني في عقائدهم، وأعمالهم، بحيث يكون مخالفًا لهم، ومن سلك سبيلاً آخر غير سبيل المؤمنين لا شك أنه ضالٌ منحرف، ويذكر استدلال الأصوليين بهذا على صحة الإجماع، وأنه لا يجوز مخالفته، ومعروف أن الذي استدل بهذا أولاً هو الإمام الشافعي - رحمه الله - حينما سُئل عن دليلٍ يدل على صحة الإجماع، فقرأ القرآن كاملاً قراءةً تدبرية، ثم أعاد قراءته ثانية يطلب دليلاً، فوقف على هذا الدليل في قراءته الأخرى[2] واهتدى إلى أن هذا يدل على صحة الإجماع، وأنه حُجة.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في هذه الآية وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]: "هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية"[3] ونلحظ إيراده لفظة (المحمدية)، وبعض الناس ينكروها، ويقولون: إنها مُحدثة، نعم هي لا تُعرف في العصور الأولى، والقرون المفضلة، لكن قد استعملت قديمًا، مثل كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا، ولا يحضرني أحد قبل الحافظ ابن كثير أطلق "الأمة المحمدية" لكن يُستعمل هذا عند المعاصرين أكثر، فالشيخ محمد رشيد - رحمه الله - مثلاً له كتاب اسمه: (الوحي المحمدي)، وكثيرًا ما يقول المعاصرون: "الأمة المحمدية" لكن هل يصح مثل هذا الإطلاق، والتسمية، والنسبة، أو يقال: الأمة الإسلامية؟ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الحج:78].

يقول هنا ابن كثير: "وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية" يعني تكون مخالفة للإجماع "فيما عُلم اتفاقهم عليه تحقيقًا" يعني ليس الاختلاف الظني "فإنه قد ضُمنت لهم العصمة باجتماعهم من الخطأ، تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيهم ﷺ وقد، وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة"[4] يعني كقوله ﷺ: إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد ﷺ على ضلالة[5] إلى أن قال ابن كثير: "ومن العلماء من ادعى تواتر معناها"[6] أي: معنى هذه الأحاديث "والذي عول عليه الشافعي - رحمه الله - في الاحتجاج على كون الإجماع حُجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي، والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات، وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك، واستبعد الدلالة منها على ذلك" نعم هي ليست قطعية الدلالة على هذا المعنى، والجانب الأخر هو: أن الإجماع الذي يُنقل هل هو إجماعٌ مُحقق، أو أنه إجماعٌ ظني؟ الإمام أحمد - رحمه الله - قال: من ادعى الإجماع فقد كذب[7] لكن هذا لا يُقال في كل إجماع، لكن في كثير من الإجماعات التي تُنقل ليست قطعية، فحصل كثيرٌ من التساهل في نقل الإجماع، لكن إذا تحقق الإجماع، وثبت، ووجد من خالفه بعد معرفته، فلا شك أن هذا منحرف، وأن فعله منكر، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

ولهذا قالوا أيضًا ما هو أبلغ من هذا: إن الأمة إذا اختلفت على قولين مثلاً، لا يجوز لمن بعدهم أن يحدث قولاً ثالثًا يعود على أقوالهم بالإبطال، يعني لا يكون جمعًا بين هذه الأقوال مثلاً، فهذا لا يصح؛ لأنه ينسب الأمة إلى الجهل، والغلط، بمعنى أنها لم تعرف ما جاء به الرسول ﷺ أطبقت على الخطأ على قوليها، أو على الأقوال التي اختلفوا عليها.

"نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] أي: نتركه مع اختياره الفاسد".

كأنه يقول: نتخلى عنه، ونوله ما تولى، ونحسن في صدره هذا العمل، والحال استدراجًا له فيُخذل، ومن تخلى الله عنه طرفة عين، فلا تسأل عن حاله، وضلاله، وضياعه، وهذا وعيد لمن شاق الرسول ﷺ وفي ذلك تحذير من مخالفة هديه، وسنته، فيكون ذلك سببًا لخذلان العبد، فيحرم التوفيق، والهداية.

  1.  صحيح سنن الترمذي (7/36-3036).
  2.  أحكام القرآن للشافعي - جمع البيهقي (1/40).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/412).
  4.  المصدر السابق.
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/466-2167) الألباني: "صحيح دون ومن شذ".
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/412).
  7.  المحلى (10/422).